شبحٌ ينتاب الرأسمالية متعددة الجنسيّات – شبح المعلومات الحرّة. ضد هذا الشبح اتّحدت في طراد رهيب قوى "العولمة" كلها: مايكروسوفت وديزني، ومنظمة التجارة العالمية، والكونغرس الأمريكي، والمفوّضية الأوروبية.
فأي مؤيدٍ للحريّة في المجتمع الرقمي لم يتّهمه خصومه بأنه قرصانٌ أناركيٌ شيوعيٌ؟ ألم نلاحظ أن كثيرا ممن يلقون تلك النعوت مجرد سُرّاقٍ للسلطة، وأن حديثهم عن "المِلكِيّة الفكرية" ليس إلا محاولة لنيل امتيازات غير مبررة في مجتمع يتبدّل بسرعة وبلا رجعة؟ إن قوى العولمة كلها تعترف بأن حركة الحريّة نفسها قوّة، وقد آن الأوان أن ننشر أمام العالم كله طرق تفكيرنا وأن نواجه خرافة شبح المعلومات الحرة ببيان من أنفسنا.
المُلاك والمُنتجون
في كل أرجاء العالم، أعلنت حركة المعلومات الحرّة قدوم بُنية مجتمعيّة جديدة وُلدت من تحوّل المجتمع الصناعي البرجوازي بالتقنية الرقميّة التي ابتكرها ذات المجتمع.
إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن، ليس سوى تاريخ صراعات طبقيّة.
حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، برجوازيٌ وبروليتاري، إمبرياليٌ ودونيّ، وبكلمة: ظالمون ومظلومون، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، أو بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين.
والمجتمع الصناعي، الذي قام من التوسّع العالميّ للسلطة الأوروبية والذي بشّر بالحداثة، لم يلغِ التناحرات الطبقيّة، بل أحل فقط محل الطبقات القديمة طبقات جديدة، وحالات اضطهاد جديدة، وأشكالا جديدة للنضال. بيد أن عصر البرجوازين بسّط التناحر الطبقي؛ وبدى المجتمع بأسره مكونًا من معسكرين متحاربين، من طبقتين كبيرتين يجابهان بعضهما: البربرجوازيّة والبروليتاريا.
لكن الثورة لم تحدث، و"دكتارتورية البروليتاريا" حيثما أُسست أو أُدّعي أنها أُسست أثبتت عجزها عن تحقيق الحريّة. بدلا من ذلك، منحت التقنيةُ الرأسماليةَ إذعانًا أمِنَت به، فالعامل العصريّ ارتفع مع تقدّم الصناعة، بدلا من أن ينحط عميقًا دون أوضاع طبقته، ولم يزد العَوَز بسرعة تفوق سرعة نُمو السكان والثروة. جعلت الصناعة المُعَقلنة بأسلوبها الفرويدي العمال الصناعيين لا بروليتاريا مُدقعة بل جمهورًا مستهلكًا بالجملة لبضاعة بالجملة. صار تهذيب البروليتاريا جزءًا من برنامجٍ تحمي به البورجوازية نفسها.
وهكذا لم يعد التعليم العامّ وإنهاء الاستغلال الصناعي للأبناء البرنامج الذي يطمح له الثائر البروليتاري؛[أ] فبالتعليم العامّ، صار العمال مُعرّضين للإعلام الذي يُحفّز فيهم مزيدًا من الاستهلاك، كما أن تطوّر التسجيل الصوتي والهاتف والأفلام والراديو والتلفزيون كل ذلك غيّر علاقة العمال بالثقافة البرجوازيّة، كما غيّر الثقافة ذاتها.
كانت الموسيقى مثلا وعلى امتداد التاريخ الإنساني الماضي فانية ولم تكن سلعة، بل كانت عملية مجتمعيّة، تحدث في مكان ما وفي وقت ما، ويستهلكها حيث تُؤدى أشخاصٌ لم يكونوا يُقسّمون إلى مستهلكين وصُنّاع؛ لكن بعد ذيوع التسجيل، لم تعد الموسيقى فانية وصارت سلعة وصار ممكنًا نقلها إلى مسافات بعيدة وصارت بالضرورة مُتغرّبة عن من أدّاها. صارت الموسيقى هدفًا استهلاكيًا، وجلبت فرصة ليكسب "مُلاكها" الجدد مزيدًا من الاستهلاك ولتُخلق رغبات إضافية عند طبقة الاستهلاك بالجملة الجديدة، وليُوَجّه طلبها في اتجاهات مُربحة للمِلكِية. ذات الأمر حدث مع الوسيط الجديد كليًا: الأفلام، والذي أعاد -خلال عقود- ترتيب الإدراك الإنساني، ونال حيّزًا معتبرًا من يوم كل عامل ليستقبل رسائل تأمره بمزيد من الاستهلاك. تمرّ عشرات آلاف الإعلانات أمام عينيّ كل طفل وطفلة كل سنة، وهو ما أدخل الأطفال المُحرّرين من العمل على أجهزة الإنتاج إلى إقطاعية جديدة: صاروا مُجنّدين يعملون على آلة الاستهلاك.
وهكذا غدت العلاقات البرجوازيّة أقل ضيقًا وأقدر على استيعاب الثروة التي تُحدثها. وهكذا أيضا شُفيت من وبائها الغريب وهو فائض الإنتاج. لم يعد المجتمع يملك المزيد من الحضارة، والمزيد من وسائل العيش، والمزيد من الصناعة، والمزيد من التجارة.
لكن البرجوازيّة لا تستطيع البقاء بدون أن تُثوِّر باستمرار أدوات الإنتاج، وبالتالي علاقات الإنتاج المجتمعيّة، وبالتالي علاقات المجتمع بأسره. هذا الانقلاب المتواصل في الإنتاج، وهذا التزعزع الدائم في كل الأوضاع المجتمعيّة، والقلق والتحرك الدائمان، هذا كله يميّز عصر البرجوازيّة عمّا سبقه من عصور. العلاقات الجامدة الصَّدئة مع ما يستتبعها من تصوُّرات وأفكار قديمة موقّرة، تتفكك كلها، وكل جديد ينشأ يهرم قبل أن يصلُب عوده، والتقسيم الفئوي القائم يتبدد هباء.
عندما حلّت التقنية الرقميّة، ساعدت ثقافةُ الاستهلاك بالجملة الإنتاجَ بالجملة في ولادة ظروف مجتمعيّة جديدة ومنها نتج تناحرٌ طبقيٌّ جديد.
والبرجوازيّة، بالتحسين السريع لكل أدوات الإنتاج، وبالتسهيل اللامتناهي لوسائل الاتصال، تشدّ الكل حتى الأمم الأكثر تخلفا إلى الحضارة. والأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثقيلة التي تدك بها الأسوار الصينيّة كلها، وتُرغم البرابرة الأكثر حقدا وتعنتا تجاه الأجانب على الاستسلام، وتجبر كل الأمم، إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك، على تبنّي ثقافتها ومبادئها في المِلكِيّة الفكرية، وترغمها على تقبّل الحضارة المزعومة، أي على أن تصبح بدورها برجوازيّة. وبكلمة هي تخلق عالما على صورتها. بيد أن وسائلها للاتصال والهيمنة الثقافية تنقلب لتكون أدوات للمقاومة فتنقلب على نفسها.
إن التقنية الرقميّة حوّلت الاقتصاد البرجوازي، فالتغت التكلفة الحديّة marginal cost للمنتجات السائدة في نظام الإنتاج (التي يستهدفها الاستهلاك الاقتصادي والتي هي سلع تباع كما هي في ذات الوقت تعليمات تعطى للعامل عن ماذا يشتري وكيف يشتريه) وذات الأمر حدث مع كل أشكال الثقافة والمعرفة الأخرى. صار ممكنا لأي أحد وكل أحد أن يستفيد من كل الأعمال الثقافية: الموسيقى والفن، والأدب، والمعلومات التقنية، والعلم، وكل أشكال المعرفة الأخرى. اضمحلّت العقبات أمام التفاوت المجتمعي والانعزال الجغرافي، ومحل الاكتفاء الذاتي الإقليمي والقومي والإنعزال القديم، قامت علاقات شاملة في كل النواحي. وما ينطبق على الإنتاج المادي ينطبق أيضا على الإنتاج الفكري. فالإنتاجات الفكرية لكل فرد أصبحت ملكا مشتركا. إنّ علاقات الإنتاج والتبادل البرجوازيّة، وعلاقات المِلكِيّة البرجوازيّة – إن هذا المجتمع البرجوازي الحديث الذي أبدع كما في السِّحر وسائل الإنتاج والتبادل الضخمة، يُشبه المشعوذ الذي فقد سيطرته على التحكُّم بالقوى الجهنمية التي استحضرها.
مع هذا التغيّر، يُجبر الناس في النهاية على التفرّس في وضعهم المعيشي، وفي علاقاتهم المتبادلة بأعين بصيرة. يقف المجتمع أمام حقيقة بسيطة وهي أنه وعندما يمكن لكل فرد حيازة كل عمل فكري جميل ومفيد (وعندما يمكن جناية القيمة الإنسانية من كل هذه الزيادة في المعرفة) بتكلفة حيازة فرد واحد لها، لا يعود أخلاقيًا استثناء أحد. لو كان لروما القدرة على تغذية الجميع بوفرة بتكلفة لا تزيد على تكلفة طاولة القيصر، فسيزيل الشعب القيصر بعنف لو بقي أحدٌ يتضوّر جوعًا؛ لكن نظام المِلكِيّة البورجوازي يحتم أن تقسم المعرفة والثقافة بين الناس بحسب قدرتهم على الدفع. الأشكال التقليدية البديلة التي أنعشتها تقنية الاتصال الحديثة (والتي تتكون من اتحاد تطوّعي بين من ينتج ومن يدعم) تدخل في منافسة غير متكافئة مع المِلكِيّة وأنظمتها القوية جدًا للاتصال الجماهيري. أنظمة الاتصال الجماهيري هذه مبنية بدورها على نزع مِلكِيّة الناس المشتركة للنطاق الكهرومغناطيسي؛ وعلى امتداد المجتمع الرقمي، تتجه طبقات العاملين في المعرفة (من فنانين وموسيقيين وكتاب وطلبة وتقنيين وغيرهم ممن يحاول تحسين حياته بنسخ المعلومات وتعديلها) نحو الراديكالية بسبب التضارب بين ما يعرفون أنه ممكن وبين ما تمليه الأيديولوجية البرجوازيّة؛ ومن هذا التعارض ينشأ وعيٌ بطبقة جديدة، وبوعي الطبقة بذاتها، يبدأ انهيار المِلكِيّة.
وتقدّم المجتمع الرقمي، الذي تُشكّل البرجوازيّة دعامته بلا إرادة منها وبلا مقاومة، يُحِلّ وحدة المنتجين الثورية عبر الترابط محل انفرادهم الناتج عن تنافسهم. يكتشف صُنّاع المعرفة والتقنية والثقافة أنهم لم يعودوا بحاجة إلى بُنية إنتاجٍ تستند على المِلكِيّة ولا بُنية توزيع تستند على القهر على الدفع. يتيح الاتحاد (وأسلوبه الأناركي للإنتاج المستند على الإنتاج بلا مِلكِيّة) إنشاء برمجيات حرة يملك من خلالها الصناع التصرّف بتقنية إنتاج ما تبقّى.[1] تصبح الشبكة ذاتها (بعد أن تحرّرت من تحكم المذيعين وغيرهم ممن يملكون النطاق) نواة لنظام جديد للتوزيع قائم على اتحاد بين أقران دون تحكّم هرمي وذلك سيستبدل نظام التوزيع القهري لكل الموسيقى والفيوديوهات وغير ذلك من المنتجات الناعمة. ستصبح الجامعات والمكتبات وما شابهها من مؤسسات حليفة للطبقة الجديدة وستُفسّر دورها التاريخي في توزيع المعرفة بأن من واجبها أن تكمل الوصول للمعرفة التي تراعها لكل الناس وبالمجان. إن تحرير المعلومات من تحكّم المِلكِيّة يحرر العامل من دوره المفروض كخادم للآلة. تسمح المعلومات الحرة للعاملة بأن تستثمر وقتها لا في استهلاك الثقافة البرجوازيّة بل في حصاد ما يمليه ذهنها ومهارتها، ولا تعود بذلك مشارِكةً سلبية في نظم الإنتاج والاستهلاك كما كان يحبسها المجتمع البرجوازي.
لكن البرجوازيّة حيث ظفرت بالسلطة دمّرت كل العلاقات الإقطاعية من كل لون، التي كانت تربط الإنسان بـ"سادته الطبيعيين"، ولم تُبقِ على أية رابطة بين الإنسان والإنسان سوى رابطة المصلحة البحتة، والإلزام القهري بـ"الدفع نقدا". وأغرقت الرعشة القدسية للورع الديني، والحماسة الفروسية، وعاطفة البرجوازيّة الصغيرة، في أغراضها الأنانية المجرَّدة من العاطفة، وحوّلت الكرامة الشخصية إلى قيمة تبادلية، وأحلّت حرية التجارة الغاشمة وحدها، محل الحريات المُثبَتة والمكتسبَة التي لا تحصى. وبكلمة أحلّت استغلالا مباحا وقحا مباشرا وشرسا، محل الاستغلال المُغلَّف بأوهام دينية.
وأمام التحرّر الجذري للطبقات العاملة، التي بات وصولها للمعرفة والمعلومات يتخطّها دورها السابق كمستهلكة للثقافة الجماهيرية، يُنافح نظام المِلكِيّة البرجوازي حتى آخر رمق، مستخدمًا أداته المفضّلة، أداة "التجارة الحرّة"، لإحلال الأزمة التي كان يخشها، أزمة فائض الإنتاج. تستميت المِلكِيّة البرجوازيّة في سعيها لحبس الصُنّاع في أدوارهم كمستهلكين بأجر مدفوع بأن تسعى إلى تحويل العَوَز المادي في بعض أجزاء العالم إلى مصدر للبضاعة الرخصية ليستردّوا للسلبية الثقافية لا البرابرة، بل أغلى ما يملكون وهم العمّال التقنيين المتعلّمين في أكثر المجتمعات تقدًما.
وفي هذا التطور يُشكّل العمال والصُنّاع جموعا مبعثرة في البلاد كلها يُشتّتها التنافس. ومن وقت إلى آخر ينتصر الصُنّاع لكن انتصارهم هو إلى حين. والنتيجة الحقة لنضالاتهم ليست في النجاح المباشر بل في اتّحاد العمل المتعاظم باستمرار. وهذا الاتحاد يعززه نمو وسائل الاتصال التي تبتدعها الصناعة الكبرى، والتي تربط بين عمّال مختلف النواحي وصُنّاعها. وهذا ما كان دائمًا ينقصنا: إن هذا الترابط يجعل النضالات المحليّة المتفرّقة ذات طابع واحد في كل مكان، تتمركز في نضال قومي واحد، في نضال طبقيّ. غير أنّ كل نضال طبقي هو نضال سياسي. والاتحاد الذي احتاج سكان القرون الوسطى قرونا لتحقيقه (نظرا إلى طُرقاتهم البدائية)، يُحقّقه عُمّال المعرفة العصريون في سنوات قليلة بفضل الشبكة.
الحرية والخلق
لم تصنع البرجوازيّة، فحسب، الأسلحة التي تؤدي بحياتها، بل أنجبت أيضا الرجال[أ] الذين سيستعملون هذه الأسلحة وهم عمال المعرفة أو الصُنّاع، الذين بحوزتهم المهارات والمعارف التي تخلق قيمة مجتمعيّة وقيمة تبادلية، وهم يرفضون أن يتحوّلوا إلى بضاعة، وهم قادرون على أن يتعاونوا على إنتاج كل تقنيات الحريّة ومثل هؤلاء العمّال لا يمكن أن يتحوّلوا إلى مجرد مُلحق بالآلة؛ ففي حين اجتمع الجهل بالانعزال الجغرافي وأرغم البروليتاريا على أن تكون جزءًا من الجيش الصناعي الذي جعلهم مجرد مُكوّن غير فارق يمكن التخلص منه، يحتفظ الصُناع الذي يتحكّمون جماعيًا بشبكة الاتصالات البشرية بفردانيتهم، ويَعرضون قيمة عملهم الفكري بطرق عدّة أكثر توافقًا مع رفاههم وحريتهم مما يمكن لنظام المِلكِيّة البرجوزاية أن يمنحهم.
لكن ومع كل نجاح للصُنّاع في تأسيس الاقتصاد الحُرّ الحقّ، سيتعين على البرجوازيّة أن تفرض بنُية الإنتاج القهريّ والتوزيع القهريّ بغطاء تفضيلها المزعوم ل"الأسواق الحرّة" و"التجارة الحرّة"، ورغم أنها مستعدّة لتدافع بالعنف عن تلك المنظومة التي تستند على العنف، تستر البرجوازيّة في محاولاتها القهرية الأولى بأداتها المُفضّلة للإرغام، وهي مؤسساتها القانونية؛ فكما اعتقد النظام البائد في فرنسا أن الحفاظ على المِلكِيّة الإقطاعية ممكن بقوّة القانون المعتدلة رغم الحداثة التي ألمّت بالمجتمع، يعتقد مُلاك البرجوازيّة مثلهم أن قانون المِلكِيّة يمنحهم حصنًا ضد القوى التي أطلقوها بأنفسهم.
وعند درجة معينة من تقدّم وسائل الإنتاج والتبادل، لم تعد الشروط التي كان المجتمع الإقطاعي ينتج فيها ويبادل، لم يعد التنظيم الإقطاعي للزراعة والمانيفاتورة، بكلمة لم تعد علاقات المِلكِيّة الإقطاعية تتلاءم مع القوى المنتجة في تمام نموّها. فكانت تُعيق الإنتاج بدلا من دفعه نحو التقدّم، ولذا تحوّلت إلى قيود كان لا بُدّ من تحطيمها وقد حُطّمت.
ومحلها حل التنافس الحر، مع هيكلية مجتمعيّة وسياسية ملائمة، ومع السيطرة الاقتصادية والسياسية للطبقة البرجوازيّة. بيد أن "التنافس الحرّ" لم يكن أبدًا أكثر من طموح للمجتمع البرجوازي، فذلك المجتمع تجلى فيه باستمرار تفضيل الرأسماليين للاحتكار، فالمِلكِيّة البرجوازيّة تُجسّد مفهوم الاحتكار وهي تلغي عمليًا دعوى الحرية التي ما انفك القانون البرجوازي يدّعيها، وذات الأمر في المجتمع الرقمي الجديد إذ يؤسس الصُنّاع بُنى حرّة للنشاط الاقتصادي، وهنا تتصادم دعوى المِلكِيّة البرجوازيّة مع دعوى الحرية البرجوازيّة. إن حماية مِلكِيّة الأفكار يتطلب تعطيل التقنية الحرة، والذي بدوره يعني تعطيل حريّة التعبير، فيُستعان بسُلطة الدولة لمنع الخلق الحر، ويمنع العلماء والفنانون والمهندسون والطلاب من خلق المعرفة أو مشاركتها بدعوى أن أفكارهم تعرض الملاك في نظام الإنتاج والتوزيع الثقافيين للخطر؛ وفي محاكم المُلاك يجد الصُنّاع هويّتهم الطبقيّة واضحة جليّة، وهناك، يبدأ الصدام.
لمُلّاك الثقافة، نقول: لقد أصِبتم بالذعر لأنّنا نريد إلغاء المِلكِيّة الخاصة للأفكار. ولكن المِلكِيّة الخاصة، في مجتمعكم الراهن، مُلغاة بالنسبة إلى تسعة أعشار من فيه، فما يُنتجونه يتملّكه أرباب العمل فورًا مُدّعين الحقّ في نتاج فكرهم عبر قانون براءة الاختراع، وحقوق النشر، والأسرار التجارية وغير ذلك من أشكال "المِلكِيّة الفكرية"؛ والبرجوازيّة نزعت عنهم حقّهم الذي وُلدوا به وهو حق الاستفادة من المجال الكهرومغناطيسي، والذي يمكن أن يسمح لكل الناس بالتواصل والتعلم فيما بينهم بحرية وبتكلفة لا تكاد تذكر، وجعلت مكانه المنتجات الاستهلاكية (ثقافة البث، وخدمات الاتصالات) والتي يدفعون ثمنًا باهضًا عليها. لا يجد الإبداع طريقًا: فموسيقاتهم وفنّهم وقصصهم تغرقها منتجات الثقافة الرأسمالية، والتي تُعظّمها هيمنة الأقلية على "البث" الذي ينبغي أن يقفوا أمامه سلبيين، مستهلكين لا مبدعين. باختصار، أنتم إذن تلوموننا لأننا نريد إلغاء مِلكِيّة تَفرض، كشرط ضروري لوجودها، انعدام المِلكِيّة بالنسبة إلى الأغلبية الساحقة من المجتمع.
إن من الطعون التي تُوجَّه ضد إلغاء المِلكِيّة الخاصة للأفكار والثقافة أن كل عمل إبداعي سيتوقف لغياب "الحافز" وأن كسلا عامًا سيغشانا.
وإذا صدقت هذه النظرة فينبغي ألا تكون الموسيقى والفنون والتقنية والتعلم قد وُجدت قبل البرجوازيّة إذ هي وحدها التي قرّرت ربط المعرفة والثقافة برباط الدفع نقدًا. إن هذه النظرة تتجاهل الحقائق المشاهدة وتعجز عن تفسيرها حين تُواجه بتقدّم الإنتاج الحر والتقنية الحرة والبرمجيات الحرة وما نتج عنها من تطوير لتقنية التوزيع الحرّ، فتُلغى هذه الحقائق لصالح الاعتقاد الباطل بأن التنظيم الذي كان مهيمنًا خلال فترة وجيزة على الإنتاج الفكري وعلى التوزيع الثقافي في فترة عزّ البرجوازيّة لا يمكن استبداله (رغم كل الأدلة الماضية والحاضرة)، لأنه الوحيد الممكن.
ولذا نقول للملاك: إن نظرتكم المنفعيّة، التي تحوّلون بها علاقات إنتاجكم وملكيتكم، من علاقات تاريخية عابرة في مجرى الإنتاج إلى قوانين أبديّة (ثابتة) للطبيعة والعقل، هذه النظرة تتشاطرونها وجميع الطبقات السائدة التي بادت. فإن ما تدركونه عن المِلكِيّة القديمة، وما تقرّونه عن المِلكِيّة الإقطاعية، تعجزون طبعًا عن إقراره عن نمط المِلكِيّة البرجوازيّة.
إن طروحاتنا النظرية لا تقوم قطعا على أفكار ومبادئ ابتكرها أو اكتشفها هذا أو ذاك من مُصلحي العالم. إنّها فقط تعبير عام عن الشروط الحقيقية لصراع طبقيّ قائم، وعن حركة تاريخية تجري أمام أعيننا.
فعندما يتحدث الناس عن أفكار تُثوِّر مجتمعا بأسره، فهم يتحدثون عن واقع فحسب، وهو أنّ عناصر مجتَمع جديد قد تكونت في عقر المجتمع القديم، وأنّ انحلال الأوضاع المعيشية القديمة يواكبه انحلال الأفكار القديمة.
إننا -معشر الصُنّاع في مجتمع المعلومات الحرّة- نريد أن ننتزع من البرجوازيّة تدريجيًا الميراث البشري، إذ نريد أن نسترد الموروث الثقافي الذي سُرق بدعوى "المِلكِيّة الفكرية"، كما نريد استعادة الوسط الكهرومغناطيسي. إننا ملتزمون بالنضال لحرية التعبير وحرية المعرفة وحرية التقنية. وطبعا تختلف التدابير تبعا لاختلاف البلدان. غير أنّ تطبيق التدابير الآتية ممكن، بصورة عامة تقريبا:
- إلغاء كافة أشكال المِلكِيّة الخاصة للأفكار.
- سحب كل الرخص الحصريّة والامتيازات الحصريّة والحقوق الحصريّة لاستخدام المجال الكهرومغناطيسي وإبطال التملك الدائم لتردادات المجال الكهرومغناطيسي.
- تطوير بُنية للمجال الكهرومغناطيسي تمنح كل شخص حقًا متساويًا في التواصل.
- التطوير المجتمعي المشترك لبرامج الحاسوب وكل صور البرمجيات الأخرى، بما في ذلك المعلومات الجينيّة، واعتبار كل ذلك مُلكًا عامًا.
- الاحترام الكامل لحرية التعبير، ومن ذلك كل أشكال التعبير التقني.
- حماية أصالة الأعمال الإبداعية.
- الوصول الحر والمتساوي لكل المعلومات وكل المواد التعليمية المستخدمة في كل قطاعات النظام التعليمي العام.
بهذه التدابير، وبغيرها، نحن ملتزمون بالثورة التي ستحرّر البشرية، وبالإطاحة بنظام المِلكِيّة الخاصة للأفكار، نوجد مجتمعًا عادلًا بحقّ، يكون فيه الرقيّ الحر لكل فرد شرطا للرقيّ الحر للجميع.