أريد أن أناقش ثلاثة مفاهيم متعلقة بـ "المساواة"، وهي تحديدا: تساوي الحقوق، وتساوي الأحوال، وتساوي المَلَكات (وبشكل عام: طبيعة المَلَكات، أو باختصار: فطرة الإنسان وتنوّعها). آخر هذه المسائل إنما هو بحث عن الحقيقة ويقع حتما في مجال العلوم الطبيعيّة ورغم أن فهمنا له ضعيف إلا أن الإجابة عليه (بقدر المستطاع) تكون بالتحرّي دون تحيّز؛ أما المسألتين الأولتين فتطرحان مسائل قِيَميّة مفصليّة. كل واحدة من هذه المفاهيم تتطلّب تحليلًا دقيقًا وهو ما لا أدّعي القيام به هنا.
إذا ما أردنا حقًا أن نناقش تساوي الحقوق وتساوي الأحوال (ولا سيما إن كان النقاش يقودنا لتصرّف ما) فيتحتّم أن نتعطى مع الحقائق. لا يصبح النقاش ذا قيمة اجتماعيّة (مهما حافظ على ما فيه من فكر) ما دامت الحقائق لا تُطرح بدقّة، وفي كثير من النقاشات المعاصرة المتعلقة بالمساواة، لا تُطرح الحقائق بدقّة.
فلنتأمل على سبيل المثال مجموعة مقالات عن "مذهب المساواة" كتبها جون كوبز John Cobbs في مجلة بزنس ويك Business Week (في ديسمبر 1975). تلك السلسلة لا تختلف عن غيرها من النقاشات التي تدور حاليًا عن هذه القضايا. ينطلق كوبز من افتراض عن الواقع وهو أن: "كل البرامج الاجتماعيّة للحكومة تهدف للمساواة بوجهٍ ما" (لكنه يضيف أن البرامج الفيدراليّة "لا تحقق دوما هذه النتيجة"). هل افتراضه عن الواقع والذي انطلق منه يقارب الحقيقة؟ يمكن أن نبرهن وبقوّة على عكس ذلك. المعونات التي تُعطى للتعليم العالي مثلا تتناسب مع دخل العائلة، وبرنامج الطرق السريعة الفيدراليّ الضخم كان إلى حد كبير معونة لشركات النقل التجاريّة (ويمكن أن نقول أيضًا أنه تسبب برفع تكاليف العيش بطريقة غير مباشرة) كما كان معونة لشركات البترول الكبيرة التي تجني أرباحها من وسائل النقل ويترتب عن ذلك تكلفة اجتماعيّة باهضة. لا يمكن أيضًا أن نَصِف برامج الإسكان الحكوميّة خلال الثلاثين سنة الماضية بأنها برامج "تهدف للمساواة". برنامج الإسكان في مدينتي مثلا دمّر "حيًا لذوي الدخل المحدود غالبيّة سكّانه من الإيطاليين والإيطاليات" في بيكون هِل Beacon Hill واستبدلها بـ"مبانٍ شققيّة تمولها قروض عليها ضمان حكوميّ". اقتباسي هنا من بروفسور الهندسة في MIT روبورت غودمان Robert Goodman في تقييمه لبرامج الإسكان الفيدراليّة التي وصفها بأنها "طريقة فعّالة لاستغلال الفقراء".[1] فلنتأمل كذلك المعونات الحكوميّة لصناعة السلاح وللصناعة الزراعية، والأخيرة تنال جزءًا من المعونة من الأبحاث التي تتناول التقنية الزراعية المُصمّمة خصيصا لتلائم مصالح الشركات الكبرى وتلك الأبحاث تُجرى في الجامعات التي تدعمها الحكومة. ولنتأمل أيضًا التكاليف الحكوميّة الباهضة لضمان مناخ عالميّ يحابي التجارة. في المجتمعات القائمة على التفاوت، من غير المرجّح أبدًا أن تكون برامج الحكومة تهدف للمساواة، بل من المتوقع أن تكون تلك البرامج صممتها وتلاعبت بها الشركات الخاصّة لمصالحها، وكثيرًا ما يصدق هذا التوقّع. لا يُتصوّر أن يكون الحال غير ذلك في ظل غياب التنظيمات الشعبية الكبيرة المستعدّة للنضال للحقوق والمصالح. إن السعي لتأسيس برامج حكوميّة تهدف حقًا للمساواة ثم تنفيذها سيقود لنوعٍ من الصراع الطبقيّ، وفي الوضع الراهن للتنظيمات الشعبيّة وتوزيع السلطة الفعليّ، لا شكّ من سينتصر، وهذه حقيقة يتجاهلها بعض "الشعبويّين" الذين هم محقّون في رفض البرامج الحكوميّة التي تصبّ في مصلحة القوى الاقتصاديّة الخاصّة.
لا ينبغي أن نتجاهل ونحن نبحث دور الدولة في مجتمع تسود فيه سلطة التجّار أنه و"بشكل عام يمكن اعتبار الرأسماليّة اقتصادًا يقوم على تكاليف غير مدفوعة، 'غير مدفوعة' بمعنى أن مقدارًا كبيرًا من التكلفة الحقيقيّة للإنتاج لا تُحسب في فواتير التجار؛ وتنقل ليتحملها طرف ثالث أو المجتمع ككل".[2] إن التحليل الجادّ للبرامج الاجتماعيّة للحكومة (ناهيكم عن تدخّلاتها الاقتصاديّة والعسكريّة وما سوى ذلك) يجب أن يبحث في دورها في دفع التكاليف الاجتماعيّة التي لا يمكن تهميشها. قد يكون ثمّة شيء من الصحة للرأي الذي يقول أن الدولة تهدف للمساواة إذا ما كان المقصد أنه وبدون تدخّلها ستقضي القوى الرأسماليّة المدمّرة على وجود المجتمع وعلى البيئة الطبيعيّة وتلك حقيقة أدركها سادة الاقتصاد الخاصّ الذين لطالما دعوا الدولة أن تقيّد تلك القوى وتنظّمها، لكن لا يمكن تبنّي الفكرة السائدة التي تدّعي أن الأصل أن الحكومة تلعب دورًا يهدف للمساواة الاجتماعيّة.
ثمّة مثال آخر: فنتأمل الاعتقاد الرائج بأن السعي لتساوي الأحوال تأتي معه تكلفة في الكفاءة وقيود على الحريّة. إن الادعاء بأن العلاقة عكسية بين تحقيق المساواة وبين الكفاءة ادعاءٌ تجريبي قد يكون صحيحًا وقد يكون خاطئًا. إذا ما كان الادعاء صحيحًا سنجد أن الصناعات التي يملكها العمّال والعاملات ويديرونها في المجتمعات القائمة على المساواة أقل كفاءة من نظيراتها التي تملكها القوى الخاصّة وتديرها والتي تستأجر العمّال والعاملات في ما يُسمّى سوقًا حرّة. لا توجد أبحاث كثيرة عن هذا الأمر، لكن الأبحاث الموجودة تظهر عكس ذلك.[3] يطرح اقتصاديّ هارفرد سيتفن مارغلن Stephen Marglin أن التغلّب على تفوّق المؤسسات التعاونيّة (التي لم يكن فيها أسياد) تطلّب إجراءات عنيفة في المراحل الأولى للنظام الصناعي. وثمّة أدلة عَملية تدعم الخلاصة القائلة بأن "الإنتاجية تزداد بشدّة إذا ما كان للعمّال والعاملات تصرّف في القرارات وصياغة الأهداف".[4] ثمّة وجهة نظر أخرى يقدمها اقتصاديّ كامبرج جاي. إي. ميد J. E. Meade وهي أنه يمكن حلّ التوتّر بين الكفاءة والتوزيع المتساوي للدخل إذا ما اتخذت إجراءات "لجعل الملكيّة متساوية في الأملاك الخاصّة، ولزيادة إجمالي الأملاك التي تخضع للملكيّة الاجتماعيّة".[5] بشكل عام، إن العلاقة بين المساواة والكفاءة ليست علاقة بسيطة يسهل رسمها، رغم كثرة الجعجعة في هذه الشأن.
إذا ما انتقلنا إلى العلاقة بين المساواة والحريّة (والتي يُزعم أنها علاقة عسكيّة) نجد أيضًا مسائل عويصة. إن تحكّم العمّال والعاملات بالإنتاج يزيد بلا شكٍّ الحريّة من بعض النواحي (وتلك نواحٍ مهمّة للغاية برأيي) جنبًا لكونها تقضي على التفاوت بين من يتحتّم عليه بيع عمله ليعيش وبين من هو محظوظ ليشتري ذلك العمل (إن أراد). أقل ما يُقال أن علينا أن نضع في الحسبان أن الحريّة وهمٌ وخديعةٌ عندما لا تتوفّر الظروف المواتية لممارستها. لا ندخل "مملكة الحريّة" الذي تحدّث عنها ماركس إلا عندما لا يكون العمل "تمليه الحاجة والظروف القاهرة"[6] وهذه اللفتة ليست مقتصرة على الراديكاليين والراديكاليات والثوريين والثوريات وحدهم. لذلك لاحظ فيكو Vico ألا تحرّر ما دام الناس "غارقين في الربى" ويتحتّم عليهم "سداد ديونهم بالعمل والكدح".[7] أحسن ديفد إليمان David Ellerman في تعاطيه مع القضية في مقالة مهمّة كتب فيها:
إنه لمن البؤس الفاضح للفكر الرأسماليّ (ناهيكم عما يُسمّى بالليبرتاريّة اليمينيّة) القول بأن العيوب الأخلاقيّة لعبوديّة لرقّ لم تعد حاضرة في الرأسماليّة لأن العمّال (بعكس العبيد) أحرارٌ يتعاقدون بطواعيّة، لكن الحقيقة أن الوجه الذي لا يكون حرمان الحقوق الطبيعيّة في الرأسماليّة مكتملا هو أن للعامل بقايا شخصيّة قانونيّة تجعل منه حرًا "مالكًا لسلعة"، ومن هنا يُسمح له بأن يمضي طواعيّة في حياته العمليّة. لكن عندما يحرم لصٌ شخصًا من حقه في اتخاذ عددٍ لا نهائيٍ من القرارات بأن يُخيّره بين خسارة المال أو خسارة حياته وعندما يكون هذا الحرمان مُقترنًا بمسدّس، فمن الواضح أن هذه سرقةٌ حتى لو أمكننا القول بأن الضحيّة "تختار طواعيّة" بين الخيارين المُتبقيين. عندما يحرم النظام القانونيّ العمّال والعاملات حقوقهم الطبيعيّة بجعل رأس المال متعاليًا، وعندما يكون هذا الحرمان مُقترنًا بالعنف القانونيّ للدولة، فمنظّرو "الليبرتاريّة" الرأسماليّة لا يدعون إلى السرقة الممنهجة، بل يحتفون بـ"التحرّر الطبيعيّ" للعمّال والعاملات حين يختارون بين الخيارين المتبقيين: بين بيع عملهم كسلعة وبين أن يكونوا عاطلين.[8]
عندما نتعاطى مع مسائل كهذه يصعب أن نقبل برضى فرضيّة أن الحريّة تقلّ إذا ما زادت المساواة (كالمساواة في التصرّف في الموارد ووسائل الإنتاج). قد يكون صحيحًا أن للمساواة علاقة عكسية بحريّة التصرّف بالممتلكات واستغلالها في النظام الاجتماعيّ الرأسماليّ، لكن لا ينبغي القول بأن هذه الأخيرة هي "الحريّة".
لم أتناول حتى الخسائر التي لا تُحصى عندما يُحوّل الإنسان إلى أداة للإنتاج وحين لا يكون له (على حدّ تعبير آدم سِمث) "فرصة للتعبير عن فهمه ولا ممارسة إبداعه" فـ"يفقد بطبيعة الحال تعوّده على التعبير ويصبح بشكل عامّ أغبى وأجهل ما يكون عليه إنسان"، ويصبح عقله ذا "غباء بليد وذلك الذي يعتبره المجتمع المتحضّر ما يمنع أراذل الناس من الفهم".[9] ما مقدار الخسارة في "الكفاءة" وفي الإنتاج الاجتماعيّ سبّبها هذا الغباء المفروض؟ وكيف لنا أن نقول أن من تقوده ظروف عمله إلى "غباء بليد" يظل "حرًا"؟
عندما نسأل أنفسنا: "كيف سيكون المجتمع العادل الشريف؟" يواجهنا تضارب في الحدس ومعايير متعارضة ليست دقيقة ولا هي واضحة المعالم، كما تواجهنا تساؤلات مهمّة عن الواقع الذي نعيش. إذا ما اعتمدنا على بعض ذلك الحدس واستثنينا بعضه الآخر، فنحن في الحقيقة نهرب من التعقيد ومن التعارض ونكون في خطر ممارسة نشاط منطقي مجرّد، ولن يكون ذلك ممتعًا أبدًا. هذا الخطر تكشفه بعض النقاشات المعاصرة. فلنتأمل مثلا "نظريّة العدالة بصفتها استحقاقًا" والتي تحظى الآن برواج. تنص تلك النظريّة أن للشخص حق التصرّف بكل ما يقتنيه بوسيلة عادلة. لو اقتنى الشخص شيئًا (بالحظّ أو بالكدّ أو بالذكاء)، فسيحق له الاحتفاظ به والتصرّف به كما يشاء والمجتمع العادل لا يتعدّى على هذا الحق.
يمكن بسهولة أن نكشف مآل هذا المبدأ: من الوارد لشخص وبطريقة مشروعة (كحظٍّ ساندته عقود "طوعيّة" فرضتها الحاجة) أن يتحكّم بضروريات الحياة، وحينها سيكون الآخرون أحرارًا في بيع أنفسهم عبيدًا لذلك الشخص (إذا وافق على ذلك)، ولهم كذلك حريّة الموت، وبدون أن نطرح المزيد من التساؤلات التي تصادر على المطلوب، سيكون المجتمع عادلا.
هذه الدعوى تشبه في جدارتها تماما إثباتًا بأن 2 + 2 = 5. إذا ما قدّم أحدٌ إثباتًا كهذا سنجد أنفسنا مدفوعين للبحث عن مصدر الخطأ في تسبيب مُعتل أو مسلّمة مغلوطة. يمكن أيضًا أن نتجاوز هذا الأمر إلى قضايا أهمّ. في المجالات التي فيها تحدٍ فكريّ حقيقيّ (كالرياضات) قد يكون شيّقًا تحرّي هذه المسائل، لكني أشكّ في جدوى هذا السعي عند التعاطي مع مشكلات المجتمع وحياة الإنسان. فلنفترض أن تصورًا مُعينًا عن "المجتمع العادل" لم ينجح في أن يعتبر الحالة المتطرّفة التي وصفتها قبل قليل ظالمة (أيًا يكن التسبيب)، يمكن حينها أن نَخلُص إلى أن هذا التصوّر ببساطة غير مهم وليس ذا جدوى فكريّة ولا عملية لأنه يفشل في أبسط القضايا؛ كما يمكن أيضًا أن نخلص إلى أن التصوّر المطروح مرفوض لأنه يفشل في أن يتوافق مع التصوّر السابق للتنظير pretheoretical notion والذي يُفترض أن تجسّده النظريّة بوضوح. إذا كان تصوّرنا الحدسي عن العدالة يحكم بوضوح على التنظيم الاجتماعيّ الذي وصفته أعلاه بأنه ظلم محض، فالقول بأنه "عادل" وفقًا لـ"نظريّةٍ للعدالة" كافٍ لإثبات أن تلك النظريّة متهالكة (وفقًا لمبدأ برهان الخلف reductio ad absurdum)، فعلى الرغم من أن ذلك التصوّر قد يعبّر عن جانبٍ من حدسنا عن العدالة، إلا أنه يتجاهل جوانب أخرى.
إن السؤال الحقيقيّ الذي ينبغي أن يُطرح تجاه النظريات التي تفشل في تجسيد مفهوم العدالة (بمعناه الجوهريّ والحدسيّ): لماذا تنال هذا الزخم؟ لماذا لا نرفضها من الأساس حين تفشل بجلاء في مثل هذه القضايا؟ لعل الجواب ما قاله إدوارد غرينبرغ Edward Greenberg حين ناقش عملا تناول نظريّة العدالة بصفتها استحقاقًا، فبعد أن قيّم القصور العملي والفكريّ لها لاحظ أن ذلك العمل "يلعب دورًا مهمًا في 'لوم الضحيّة'، وحماية الممتلكات من أن تصادرها الجماعات التي لا تملك شيئًا".[10] يُرحّب بالدفاع الأيديولوجيّ عن الامتيازات والاستغلال والسلطة الخاصّة أيًا تكن جودته.
ليست هذه المسائل قليلة الأهمّيّة للفقراء والفقيرات والمضطهدين والمضطهدات هنا وفي غير ذلك من الأماكن. وسائل التحكّم الاجتماعيّ التي تضمن الطاعة لا تكون فاعلة في أوقات ركود الاقتصاد النامي، فتتحول الأفكار التي تدور بين الأكاديميين والمدارء التنفيذين إلى أدوات أيديولوجيّة غرضها التضليل والتثبيط. علاوة على ذلك ففي عام 1976 يصعب علينا أن نتجاهل أن سلطة الدولة الأمريكيّة وُظّفت وعلى نطاق مهول لفرض النظام الاجتماعيّ والأيديولوجيّ الرأسماليّ على ضحايا يرفضون ذلك ويقاومونه في شتّى أرجاء العالم. قد يختار الأكاديميون المؤدلجون والمعلقون السياسيون أن يفسروا التاريخ بطريقة مغايرة، لكن صحافة التجارة أدق حين تقول أن "الأوضاع المستقرة للعمليات التجاريّة" و"البنية الاقتصاديّة الدولية التي ازدهرت فيها الشركات الأمريكيّة منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية" لم تكن لتكون لولا العنف المنظم للدولة: "مهما ساءت التطوّرات، كانت السلطة الأمريكيّة حاضرة لاحتوائها"، لكنهم يخشون أن العالم لن يكون كذلك بعد فيتنام.[11]
زرت مرّة قرية في لاوس كان فيها بركة جميلة كانت (في يوم من الأيام) مصدر الماء للقرية ومكانا يستجّم فيه القرويون والقرويات ويأنسون. نجح أحد المتنفذين في أن يستحوذ على الوصول للبركة كاملة، وجعلها مُحاطة بسياج. صار على القرويّين والقرويّات أن يخوضوا أميالا عدّة في الوحل ليحصلوا على الماء. كان بمقدرتهم أن يروا البركة من وراء السياج، لكنها لم تعد متاحة لهم. فلنفترض أن تملّك البركة تلك كان بوسائل "عادلة" (ولعل هذا كان الحال هنا فعلا[12])، هل لنا أن نخلص أن القرية تمثل "مجتمعًا عادلًا" بهذا الخصوص؟ هل سنسعى لإقناع القروين والقرويات أن يقبلوا بهذا الوضع لأنه عدلٌ وصواب؟ تبّنت الحكومة التي تدعمها (بل تفرضها) الولايات المتحدة هذا الموقف. نظّمت حركة باثت ليو Pathet Lao الفلاحين والفلاحات للتصدي لأشكال "العدالة" هذه، ونجحت في ذلك لدرجة أن حكومة الولايات المتحدة سعت لتدمير الغالبيّة الساحقة من أرياف لاوس في حرب كانت سريّة اختارت الصحافة الحرّة في مجتمعنا الحرّ بحريّة أن تجعلها سرًا بينما كان يُغتال آلاف الفلاحين والفلاحات وتُنزع ملكياتهم. نختار اليوم بحريّة أن ننسى ما حصل ونمحوه من تاريخنا أو نعتبره خطأً صغيرًا مؤسفًا في ظل "سعينا إلى أن نفعل الصواب" وأن "مطامحنا الجيّدة" مثّلتها بغرابة "سياسات سيّئة" بسبب جهلنا وخطئنا وسذاجتنا.[13] إن سؤال "العدالة" في حالة مفصليّة كهذه ليس سؤالا مجردًا بعيدًا بل علينا التفكير مليًا فيه.
ثمّة أسئلة مشابهة تُطرح في مجتمعنا نحن الذي يمتاز بدرجة عالية من الحريّة (إذا ما قارناه ببقيّة أرجاء العالم). على سبيل المثال لدينا وصول حرّ للمعرفة (من ناحية المبدأ)، وكان ممكنا معرفة حقيقة الحرب السريّة في لاوس (متأخرًا) بزيارة الدولة والتحدّث إلى النازحين والنازحات في مخيّماتهم وبقراءة تقارير الصحف الأجنبية وفي نهاية المطاف بقراءة تقارير صُحفنا حتّى، لكن هذا النوع من الحريّة مهما كان مُهمًا لذوي النفوذ إلا أنه عديم المعنى اجتماعيًّا. لم يكن ممكنا للغالبيّة الساحقة من سُكّان الولايات المتحدة في الواقع الوصول لهذه المعلومات، ناهيكم عن إدراك قيمتها. إن توزيع السلطة والامتيازات يحدّ عمليًا الوصول للمعلومات وقدرتها على تجاوز العقيدة التي تفرضها المؤسسات الأيديولوجيّة كالمؤسسات الإعلام السائدة، وصحافة الرأي، والمدارس والجامعات، وذات الأمر ينطبق في كل المجالات الأخرى لدينا (من ناحية المبدأ) حقوق مهمّة كفلها القانون، لكننا نعرف قيمتها (من ناحية عملية) بالنسبة لمن لا يمكنهم شراؤها. لدينا حريّة التعبير لكن صراخ بعضنا أعلى من الآخرين بسبب سلطتهم وثروتهم وامتيازاتهم، ويمكن أن ندافع عن حقوقنا في المحاكم (مادمنا نفهم تلك الحقوق ونستطيع تحمّل تكاليفها)، كل هذا واضح، ولا يستحق مزيدًا من التعليق. في الديمقراطيّة الرأسماليّة المثاليّة (التي ليس فيها سوء استغلال للسلطة) تعتبر الحريّة بضاعة يمكن للمرء أن ينال منها بقدر ما يمكنه شراؤه. نعرف لماذا يحرص المتنفذون وأصحاب الامتيازات على الدفاع عن الحريّات الشخصيّة التي هم أكثر المستفيدين منها عمليًا، لكنهم يغضّون الطرف عن الشرطة السياسيّة الوطنيّة التي تنخرط في الاغتيالات السياسيّة وفي تدمير الجماعات السياسيّة التي تسعى لتنظيم الفقراء كما حدث في شيكاغو قبل فترة قريبة، وهو الأمر الذي أطبقت الصحافة الوطنيّة وصحافة الرأي الصمت عليه.[14]
لم أتناول إلا بعض القضايا التي تُثار عند التعاطي مع إشكالية المساواة والحريّة، ولم أتعاطى حتى الآن أبدًا مع المفهوم الثالث للمساواة، وهو "تساوي المَلَكات". هنا أيضًا ثمّة اعتقادٌ رائجٌ يستحق التفحّص، ومجددًا عبّر عنه جون كوبز John Cobbs الذي يطرح ما يراه "أكبر معضلة فكريّة أمام الداعين والداعيات للمساواة" وهي أن "النظر في العالم يكشف أن بعض الرجال أذكى من آخرين"، ومن هنا يسأل: هل من الإنصاف أن "يصل السريع والبطيء لنفس الحال وفي نفس الوقت؟" هل من الإنصاف الإصرار على تساوي الأحوال عندما تكون المَلَكات الطبيعيّة متفاوتة بوضوح؟
يحق لنا أن نفترض أن اجتماع بعض الصفات في "واقعنا المشاهد" يقود للنجاح في الاستجابة لـ"متطلبات النظام الاقتصاديّ". دعونا نتفق جدلا أن بعض تلك الصفات مصدرها مَلَكة فطريّة، كيف يتسبب ذلك في "معضلة فكريّة" للداعين والداعيات للمساواة؟ لاحظوا أننا لم نتناول بإسهاب ما هي الصفات التي ينبغي أن تجتمع، ولا يوجد سببٌ يدفع للاعتقاد أن "الذكاء" أحدها (ولا أعتقد ذلك شخصيًا)، إذ يمكن أن نفترض أن الجشع والأنانيّة وعدم المبالاة بالآخرين والعدوانيّة وما شابه ذلك من صفات تلعب دورًا مُهمًا في "اجتياز" المجتمع التنافسيّ القائم على أسس رأسماليّة، وقد يَرُدّ آخرون بصفات أخرى هم منحازون لها. أيًا تكن الصفات التي تجتمع، علينا أن نتتبّع معنى ذلك (إن كان صوابًا). ما معنى أن يقود اجتماع بعض الصفات الموروثة جزئيًا إلى النجاح الماديّ؟ كل ما يعنيه -على حد علمي- أن هذا هو التنظيم الذي يقوم عليه مجتمعنا واقتصادنا. يمكن بسهولة أن نتخيّل مجتمعًا تقود فيه القوّة الجسديّة والرغبة في القتل والمقدرة على الغش وغير ذلك إلى النجاح. كل ما على الداعين والداعيات للمساواة الردّ به أن يطالبوا بتغيير النظام الاجتماعيّ كي لا تصبح تلك الصفات سببًا للنجاح، بل يمكن أن يطالبوا بأن يعتبر المجتمع الشريف الصفات التي تقود للنجاح في مجتمعنا الراهن صفات مَرَضيّة ينبغي أن نرأف بمن يتّصفون بها وأن نعينهم على تجاوز ما بهم من سَقَم، وهنا نعود للسؤال: ما هو النظام الاجتماعيّ العادل الشريف؟ لا يواجه الداعون والداعيات للمساواة "معضلة فكريّة" تختلف في نوعها عن المعضلة التي يواجهها الداعون والداعيات لنظم اجتماعيّة أخرى.
إحدى الردود المألوفة أن "فطرة الإنسان" تقتضي السعي لحيازة السلطة والمصلحة الماديّة أيًا تكن الوسيلة ما وجدت لذلك سبيلا. فلنفترض أن فطرة الإنسان تقتضي أن تلك الصفات المُقدّرة تتجلى في ظروف مُجتمعيّة مُعيّنة أو (بعبارة أدّق) أن من لهم تلك النَزَعات ينجحون، ولنفترض علاوة على ذلك أن تحصيل الثروة والسلطة يُستغل لتكريس ذلك الامتياز وحمايته كما هو الحال في الرأسماليّة الصناعيّة. يكون السؤال حينها: هل ثمّة تنظيمات اجتماعيّة أخرى لا تشجع تلك النَزَعات، بل تدفع صفات أخرى هي بدورها من صميم فطرتنا المشتركة كالتكاتف والشفقة والمراعاة واللطف.
عادة ما يكون نقاش الآراء الداعية للمساواة مضللًا لأن النقد إنما يكون لرجل القشّ وهو ما يسعى الداعون والداعيات للمساواة لتوضيحه دومًا.[15] الحقيقة أنه يصعب أن نجد "تساوي الأحوال" (كما يصفها المؤدلجون المعاصرون) هدفًا للإصلاحيّين والإصلاحيّات والثوريّين والثوريّات، ففي مدينة ماركس الفاضلة "تطوير طاقة الإنسان" ينبغي أن يكون "غاية بذاته حين يتخطّى البشر 'مملكة الحاجة'" وحينها سيكون الطرح الجاد لأسئلة الحريّة ممكنًا. المبدأ الدافع هنا والذي يكثر الاستشهاد به حتى صار مستهلكًا هو "من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته"، ولا يرد مبدأ "تساوي الأحوال" أبدًا. إذا ما احتاج شخصٌ علاجًا طبّيًا بينما كان شخصٌ آخر أكثر حظًا منه، فلن يُمنحا ذات الرعاية الطبيّة. ذات الأمر ينطبق على بقيّة الاحتياجات البشريّة.
لم يدافع الاشتراكيّون الليبرتاريون عن دكتاتورية البروليتاريا ولم يروا في ذلك الشكل من "مذهب المساواة" جدوى بل انتقدوا "الاشتراكيّة السلطويّة" التي فشلت في إدراك أن "الاشتراكيّة إما تكون حرّة أو لا تكون أبدًا":
نجد مقدارًا عاليًا من المساواة الاقتصاديّة في السجون والأديار[أ] والثكنات العسكريّة فكل النزلاء ينالون ذات السكن والطعام واللباس والمهام. جلبت دولة إنكا Inca في بيرو والدولة اليسوعيّة Jesuit state في الباراغواي مساواة اقتصاديّة لكل قاطن وقاطنة فيهما وكانوا جميعا على منزلة واحدة، ورغم ذلك وقع أشنع استبداد، وصار الإنسان مجرّد آلة يحقق مرادًا أعلى منه ولم يكن له أدنى صوت في القرارات. لم يكن برودون Proudhon جاهلا بذلك حين رأى أن "الاشتراكيّة" دون حريّة أسوأ أنواع العبوديّة. لا يمكن للعدالة الاجتماعيّة أن تنمو بشكل صحيح وأن تكون نافذة ما لم تنشأ من شعور الإنسان بالحريّة والمسؤولية، وما لم تُبنَ على ذلك.[16]
الأناركيّة بالنسبة لروكر Rocker هي "الاشتراكيّة الطوعيّة" و"الحريّة ليست مفهومًا فلسفيًا مجرّدًا، بل أمرٌ متحققٌ يجعل من الممكن أن يُطوّر الإنسان كل ملكاته ومواهبه التي منحته الطبيعة وأن يحوّلها لفعل اجتماعيّ". لم يكن ماركس ليختلف مع هذه النظرة، ويمكن العثور على ذات الفكرة في وقت أبكر في الفكر الليبرتاريّ.[17] تستحق هذه الأفكار تعاطيًا جادًا لأنها (برأيي) التعبير الأكثر رصانة عن المجتمع العادل الشريف إذ تجمع المبادئ المهمّة المفصليّة مع التنبّه لأهم حقائق التاريخ والمجتمع.
لاحظوا أن الاشتراكيّين والاشتراكيّات كماركس وبكونن Bakunin وروكر وغيرهم من اليسار لم يواجهوا "معضلة فكريّة" في تفاوت المَلَكات، بل إن الليبرتاريّين الاشتراكيّين والليبرتاريّات الاشتراكيّيات على الأقل كانوا يتطلّعون إلى "اتحادٍ فيدراليٍ لمجتمعات حرّة تربط بينها المصالح الاقتصاديّة المشتركة وتنظّم شؤونها بالاتفاق المشترك والتعاقد الحرّ"، وإلى "تجمع حرّ لكل القوى المنتجة يتأسس على العمل التعاونيّ الذي يهدف حصرًا إلى إشباع الحاجات الأساسيّة لكل عضو وعضوة في المجتمع".[18] في مجتمع كهذا لا مبرر لأن تكون العوائد مرتبطة بصفات شخصيّة مُعيّنة أيًا تكن. إن التفاوت في المَلَكات هو قَدَر الوجود البشري، وهو حقيقة يجب أن نكون مُقدّرين لها فالمجتمع الذي يمكن استبدال كل جزءٍ فيه أحد أشكال الجحيم. إقرار هذا التفاوت لا يقتضي شيئًا بخصوص العوائد.
إن إحدى الأهداف الأساسيّة للمجتمع الاشتراكيّ الذي يتصوّره اليسار الأصيل[19] أن تُلبى حاجات كل عضو وعضوة فيه. يجوز أن نفترض أن بعض تلك "الحاجات" يحكمها التاريخ، وأنها تتطوّر بتطوّر الثقافة الماديّة والفكريّة، لكن "تساوي الأحوال" ليس شرطًا للوصول لـ"مملكة الحريّة" التي تحدّث عنها ماركس، إذ سيختلف الناس في تطلعاتهم وفي قدراتهم وفي أهدافهم الشخصيّة. قد يكون عزف البيانو لعشر ساعات في اليوم حاجة شخصيّة مُلحّة لأحدهم، بينما لا يكون العزف حاجة لآخر. إذا ما سمحت الظروف الماديّة بتلبية تلك الحاجات المختلفة، ينبغي على المجتمع الشريف ذلك كما يحدث في الأُسر السعيدة. تطرأ هذه الأسئلة في المجتمعات الاشتراكيّة القائمة كمجتمع الكيبوتسيم kibbutzim الإسرائيلي. لا أتصوّر أنه من الممكن أن نخلص إلى قاعدة عامّة جامعة لحل كل الخلافات وللمقاربة بين فرص الفرد والحاجات الاجتماعيّة، وسيختلف الناس الصادقون في تقييمهم وسيسعون للوصول لاتفاق بالنقاش وبمراعاة أحوال الأخرين. هذه المشكلات ليست شاذّة، بل تطرأ باستمرار في الجماعات الاجتماعيّة القائمة، كالأُسرة، لكننا لم نتعوّد على التفكير بما يتخطّى تلك الجماعات الصغيرة بسبب المسلّمات السقيمة التي جلبتها الرأسماليّة التنافسيّة وأيديولوجيّتها المُهيمِنة. لا عجب إذا أن "الأُخوّة" كانت تُكتب على اليافطات الثورية جنبًا لـ"الحريّة" و"المساواة".[ب] لا يمكن التفكير في مجتمع اشتراكيّ دون أواصر التكاتف والتعاطف والاهتمام، وليس لنا إلا الفأل بأنها من فطرة الإنسان وأن تلك العناصر من فطرتنا الأساسيّة ستطغى وتملأ حياتنا إذا ما تغلّبنا على الظروف الاجتماعيّة التي تقمعها. يلتزم الاشتراكيّون والاشتراكيّات بالاعتقاد بأن العيش في مجتمع يقوم على الشجع والحسد والكره ليس مصيرًا مُحتّمًا. ليس عندي ما يُثبت أنهم على صواب، لكن أيضًا لا أساس للاعتقاد السائد بأنهم على خطأ.
إن التفريق بين تساوي الأحوال وتساوي الحقوق يفقد قطعيته المتصوّرة إذا ما فحصناه عن كثب. فلنفترض مثلا أن الأفراد وفي كل مرحلة من مراحل وجودهم يُعطون حقوقهم الإنسانيّة. إذا ما أردنا أن نحافظ على "تساوي الحقوق"، ينبغي عند إذ أن نضمن أن الأحوال مواتية لاستفادتهم من تلك الحقوق، وفي اللحظة التي يصبح التفاوت في الأحوال معيقًا لممارسة الحقوق، يصبح التفاوت غير شرعي وينبغي القضاء عليه في المجتمع الشريف. السؤال إذًا: ما هي تلك الحقوق؟ إذا كان من هذه الحقوق حقّ تنمية القدرات حتى تبلغ مداها لنحقق ما يسميه ماركس "الصفة المميزّة لهذا النوع الحيّ" وهي "النشاط الحرّ الواعي" و"الحياة المُنتجة" في تجمّعات تقوم على العمل البنّاء المُبدع، فينبغي إذا تسوية الأحوال بالقدر المطلوب لضمان هذا الحقّ إذا أردنا تساوي الحقوق (ولن يكون القدر المطلوب تسويته هيّنا). إذا فنظرة اليسار هي أن تساوي الحقوق يدخل فيه تساوي الأحوال، وأن التفاوت المَلَكات لا يقتضي التفاوت في العوائد، وأن تساوي الأحوال ليس غاية بذاته، وألا معضلة فكريّة بين مبادئ المساواة وبين التفاوت في المَلَكات إذا ما فهمنا الأمر بشكل صحيح، بل ينبغي ونحن نخرج من مملكة الحاجة أن نواجه مشكلات المجتمع القائم على القهر والظلم التي ستكون أوضح فأوضح.
يخطئ نقد مذهب المساواة على الأقل حين يتعرّض لهذا الجانب من اليسار، لكن يجوز أن نطرح تساؤلات أخرى، إذ قد يُقال مثلا أن الحدس الذي يقودنا لهذه النظرة للمجتمع العادل الشريف يعارضه حدس آخر مثل الاعتقاد بأن على المرء أن يُجازى على ذنوبه وأخطائه؛ أو قد يُقال أن ذلك كله هراء طوبائيّ وأن عبوديّة الأجر والبُنى السلطويّة (كالمؤسسات التجاريّة الحديثة) ضرورة لا مفرّ منها في المجتمع المُعقدّ؛ أو قد يُقال أن علينا التفكير على الأمد القصير لنحقق "مزيدًا من المساواة" و"مزيدًا من العدالة" وأن نتجاوز الأهداف البعيدة والمبادئ التي تُحرّكها، وهنا نصل إلى مجال الخلاف المشروع المفيد، فلو أمكن مثلا تقديم حُجّة تفيد بأن المجتمعات الصناعيّة المتقدّمة لا يمكن لها أن تستمر ما لم يؤجر بعض الناس أنفسهم لآخرين، وما لم يعطي البعض أوامر يتبعها آخرون (وكأنهم يرقصون على معزوفة) فيتحتّم أن نأخذ هذه الحجّة بجديّة، لأنها إن صدقت فهي تهدد النظرة الاشتراكيّة، لكن عبء الإثبات يقع على من يُصرّ بأنه لا يمكن الفرار من هذه الأشكال الصارخة للقهر والاستغلال والتفاوت. القول بأن الحال كان دائما هكذا ليس مقنعًا، فبذات الحجّة يمكن لأحدهم أن يُثبت في القرن الثامن عشر أن الديمقراطيّة الرأسماليّة مستحيلة.
هل يمكن أن نبحث سؤال "ماهيّة فطرة الإنسان"؟ وهل يمكن أن نحرز بعض التقدّم في فهم فطرة الإنسان؟ وهل يمكن أن نؤسس نظريّة تشرح الاحتياجات البشريّة الفطريّة والقدرات البشريّة الفطريّة وتنوّعها في السلالة وتجليّاتها على اختلاف الظروف الاجتماعيّة؟ وهل يمكن لهذه النظريّة أن توحي لنا على الأقل بإجابات على أسئلة ذات أهمّيّة إنسانيّة واجتماعيّة؟ من ناحية المبدأ: ندخل هنا نِطاق التقصّي العلمي، لكن ذلك علمٌ ممكن وليس علمًا مُتحقّقًا.
لا خلاف أن البشر متفرّدون في جوانب جوهريّة عن بقيّة الكائنات الحيّة في الطبيعة؛ ولو افترضنا أن عالمًا مرّيخيًّا أراد دارسة المواد التي على الأرض، لن يشكّ في هذه الحقيقة، وسيكون هذا الرأي أوضح إذا ما تتبّع تغيّرات الكائنات الحيّة خلال مدّة مطوّلة. إن للبشر اليوم ذات البُنية الجينيّة لأسلافهم قبل آلاف السنوات (باستناء بعض التغيّرات الطفيفة)، وعلى الرغم من ذلك فأنماط الحياة تغيّرت بشكل كبير ولا سيما في القرون القليلة الماضية، وهذا الأمر لم يحدث مع بقيّة الكائنات الحيّة إلا التي تعرّضت للتدخّل البشريّ. سيتفاجأ المُراقب المرّيخي أيضًا أنه وعلى مرّ التاريخ توجد بقايا من الأزمنة السابقة (بعضها من العصر الحجري حتّى) لكن أنماط العيش تغيّرت بشكل جذري، رغم أن البشر الذين يتعرّضون لها لا يختلفون بشكل مُعتبر عن من عاشوا قبلهم في تلك الظروف بطريقة مختلفة. سيُلاحظ المرّيخيّ سريعًا أن البشر فريدون في الطبيعة بامتلاكهم تاريخًا وتنوّعًا ثقافيًا وتطوّرًا ثقافيًا، وفي هذه الحالة سيراود مرّيخيّنا المُتخيّل سؤل ملح، وهو: "لماذا هم كذلك؟"
ذات السؤال طبعا طُرِح بأشكالٍ مختلفةٍ منذ بدايات الفكر البشريّ المُسجّل، وهذا طبيعيّ. من الطبيعي أن يحاول البشر تعريف مكانهم في الطبيعة. من أكثر الأسئلة أهمّيّة والتي لم يجبها العلم جوابًا وافيًا حتى الآن: "ما هي فطرة الإنسان؟" أي ما مجموع الخصال التي تجعل النوع البشريّ مختلفًا بشكل جذريّ عن بقيّة العالم العضويّ. قيل أن الإجابة تقع خارج نطاق التقصّي العلميّ، أي أن ما يميّز البشر يكمن في أن لهم روحًا خالدة لا يمكن فهمها بالمنهج العلميّ. تجدر الإشارة أن القول باستحالة الوصول للروح لدراستها ليس من لوازم المثنوية dualism،[ج] إذ يمكن اتباع منهج ديكارت بالقول بأن البشر وحدهم يملكون صفاتٍ غير ماديّة ("العقل الديكارتي")، مع الإصرار -وأظن أن الديكارتيين والديكارتيات سيُصرّون هنا- على إمكانية وجود علم يدرس العقل. فلنتجاوز هذه المسألة لنقول أنه ثمّة صفات فريدة جدًا في الذكاء الإنسانيّ وأنها من فطرة الإنسان التي تميّزه. ما لم نضع قيودًا مسبقة، سيكون سؤال فطرة الإنسان سؤالا تجريبيًّا يجيبه العلم.
ستتعاظم حيرة المراقب المرّيخيّ المُتخيّل تجاه تفرّد النوع البشريّ إذا ما عرف القليل عن علم الأحياء الحديث، إذ يبدو أن كميّة الحمض النوويّ DNA في البيضة المُلقّحة لا تختلف كثيرًا بين فأرة وبقرة وأنثى شيمبانزي وإنسانة. تشير الأدلة إلى أن الاختلافات البُنيويّة التي نلاحظها عن بعد مسؤولة عن مسار النمو الجنينيّ ومآله. قد يكون للاختلافات الصغيرة في الظروف الأوّليّة آثارٌ كبرى على شكل الكائن الناتج وحجمه ويُنيته ووظيفته وذلك كله وفقًا لنظام مُعقّد ومتداخل. هذه الظاهرة مألوفة في العلوم الطبيعيّة، إذ يمكن بسهولة البرهنة عليها عند دراسة النظام المعقّد للغة البشر. فإذا ما كنا نتعامل مع نظريّة لُغويّة ناضجة بما يكفي ومُعقّدة وواسعة فيمكن بسهولة إظهار أن تغييرات طفيفة على الأحوال العامة التي تصاحب القواعد تُنتجُ اختلافات مثيرة ومتنوعة في الظواهر المُتوقّعة بسبب التفاعلات المُعقّدة التي تجري قبل أن يُولّد النظام جملة بالقواعد التي تخضع لهذه الظروف. إذا كان علم الأحياء الحديث على المسار الصحيح، فيتحتّم حينها القول بأن الانتخاب الطبيعيّ أنتج بطريقة ما صفة مميزة ذات تعقيد جينيّ وهي "قوّة جديدة اسمها العقل البشري"، وهي "أداة فريدة أعطت ولأول مرة نوعًا بيولوجيًّا القدرة على تغيير علاقته بالبيئة … بالتلاعب الواعي بالعالم المحيط" كما أعطته طرقًا للتعبير عن الفكر والمشاعر نتج عنها الفن والعلم، وأعطته التخطيط للتصرّفات والمقدرة على تقدير عواقبها في مجالات شاسعة. يُقال عادة (وهذا قولٌ مُعتبر) أنه ولتتطوّر هذه الأداة الفريدة (=العقل البشري) "يتحتّم أن الخطوة التي سبقت ذلك كانت اختراع اللغة".[20] لا يزال فهمنا قاصرًا لبعض أوجه هذا الأمر وهو أن مَلَكة جينيّة تغيّرت وأنتجت كائنًا يملك لغة بشريّة كجزء من نظام "أعضاء ذهنية mental organs". استطاع هذا الكائن بعد ذلك المضي قُدمًا وتهيئة الظروف التي سيعيش فيها بدرجة لا يضاهيه فيها مثيلٌ في العالم الطبيعيّ، على حد ما نعرف.
مسألة "ماهيّة فطرة الإنسان" أكثر من مجرّد مسألة علميّة، فكما ذكرنا آنفًا، تقع هذه المسألة في صميم الفكر الاجتماعيّ. ما هو المجتمع الجيّد؟ يجوز لنا أن نفترض أنه المجتمع الذي يؤدي إلى تلبية الحاجات الإنسانيّة الفطريّة بالقدر الذي تسمح به الظروف الماديّة. لتكون النظريّة الاجتماعيّة جديرة بالاهتمام ولتنال الاحترام، عليها أن تستند على تصوّر ما لحاجات الإنسان وحقوقه، وبالتالي على فطرة الإنسان التي يجب أن تكون مُضمرة في أي تصوّر جادٍ لأصل تلك الحاجات والحقوق وطبيعتها. يترافق مع ذلك القول بأن البُنى الاجتماعيّة والعلاقات الاجتماعيّة التي يسعى لتحقيقها من ينشغل بالإصلاح أو الثورة ومن تنشغل بهما تستند بدورها على تصوّرٍ عن فطرة الإنسان، مهما كان مُبهمًا وعامًا.
فلنفترض أنه ومن صميم فطرة الإنسان الجنوح نحو المقايضة والتبادل كما ادّعى آدم سِمث. سنسعى حينها إلى تحقيق المجتمع الرأسماليّ الأول الذي تكوّن من مقايضين لم يُقيّدهم احتكارٌ ولا تدخّلٌ للدولة ولا إنتاجٌ يتصرّف به المجتمع. لو -وخلافًا لذلك- تعاطينا بجدّية مع تصوّر مُفكّر ليبراليّ كلاسيكيّ آخر وهو فولهم فون همبلت Wilhelm von Humboldt الذي أصرّ أن "التقصّي والخلق هما الأساسان الذين تتمحور حولهما كل مساعي الإنسان بشكل مباشر، قل أو كثر" والذي تابع بأن قال بأن الخلق الحقيقيّ لا يحدث إلا عند الاختيار الحرّ الذي يتجاوز "التعليمات والإرشادات" في مجتمع استُبدِلت فيه القيود الاجتماعيّة بأواصر اجتماعيّة حرّة. أو فلنفترض أننا -وعلاوة على ذلك- وافقنا ماركس أنه "لا يكون للفرد قدرة على تطوير نزعاته من كل نواحيها ما لم يكن في وِحدةٍ مع الآخرين. لا تكون الحريّة الشخصيّة ممكنة إذًا إلا في وِحدةٍ مع الآخرين"، وهنا تتطلّب الحريّة الشخصيّة القضاء على تغريب العمل الذي انتقده همبلت أيضًا، وذلك حين "يوكل لبعض العمّال والعاملات أعمالا بدائية ويُحوّلون بذلك إلى آلات".[21] هذه الافتراضات عن حاجات الإنسان تقودنا إلى تصور مختلف عن النظام الاجتماعيّ الذي ينبغي السعي لتحقيقه.
تبنى بعض الماركسيين والماركسيات نظرة مفادها أن "ليس للإنسان جوهرٌ سوى وجوده التاريخيّ"[22] وأن "الطبيعة لم تجعل فطرة الإنسان ثابتة، بل على العكس: الإنسان صنع الفطرة بتصرّفاته التي جعلته متعاليًا على ذاته ككائن طبيعيّ".[23] هذا التفسير مأخوذ من قول ماركس أن "الفطرة التي تتجلى في التاريخ -حين يُصنع المجتمع البشريّ- هي فطرة الإنسان الحقيقيّة"،[24] وغيرها من أقوال ماركس الأخرى المشابهة. حتى لو تبنّينا هذه النظرة، فسيتعيّن أن تسعى الخطوة القادمة في التغيير الاجتماعيّ إلى تهيئة الظروف التي يمكن فيها أن تتجلى "الفطرة الحقيقيّة" كما وصلت إليه في هذه المرحلة من التطوّر التاريخيّ والثقافيّ.
هل صحيح أن "الطبيعة لم تجعل فطرة الإنسان ثابتة"؟ لا شك أن هذا ليس صحيحًا في الجوانب المحسوسة لفطرة الإنسان، فعندما يقول مفكر ماركسيّ حديث مثل أنطونيو غرامشي Antonio Gramsci أن: "الابتكار الجوهريّ الذي أدخلته الماركسية لعلم السياسيّة وعلم التاريخ هو إثبات ألا وجود لـ'فطرة إنسان' مُجرّدة ثابتة لا تتغير … بل أن فطرة الإنسان هي مجموع العلاقات التي حدّدها التاريخ"[25] فهو لا يشير بالطبع إلى أعضاء الإنسان المحسوسة بعمومها بل إلى عضو واحد بالتحديد وهو عقل الإنسان وما يُنتجه. يتحتّم أن تكون حقيقة هذا القول أن عقل الإنسان يتميّز عن بقيّة النظم التي نعرفها في العالم الطبيعيّ أن القدرات العقليّة المتقدّمة على الأقل لا تحدد بُنيتها الجينات بل هي (عمليا) صفحة بيضاء تملؤها العلاقات الاجتماعيّة التي حدّدها التاريخ. بعض قطاعات اليسار مهووسة بتبنّي هذه النظرة، ففي تقرير كتبه والتر سولفان Walter Sullivan عن النقاشات الحديثة التي جرت في الجمعيّة الأمريكيّة لتقدّم العلوم American Association for the Advancement of Science يكتب:
النظرة الأكثر تطرّفًا والتي عبّر عنها بعض الجمهور هي أن عقل الإنسان "منفصل" تمامًا عن أي أثر جينيّ، وأنه مثل حاسوب معياري: تُحدد البرمجة وبشكل كامل درجة أدائه النسبي.[26]
هذه الافتراضات (وهي افتراضات علميّة) تُسمع أيضًا من المذهب السلوكي الراديكالي لكن يبدو لي أن الأدلة التي تدعمها ضعيفة. إذا ما صدّقنا هذه الافتراضات سيكون مستحيلا استيعاب ثراء النُظم الإداركيّة البشريّة وتعقيدها ووحدتها في النمو، ناهيكم عن اختلافها النوعيّ الشاسع عن بقيّة الكائنات الحيّة، كما أنها لا تُقدّم بالطبع دليلا ولا حُجّة لتعزيز الاعتقاد بأن عقل الإنسان يختلف بشكل شاسع عن كل بُنية أخرى نعرفها في العالم الطبيعيّ، ولعل من المفارقة أن هذه النظرة تُقدّم (ليس من اليسار فحسب) وكأنها نتيجة لمذهب طبيعيّ علميّ. يبدو لي أن خلاف هذه النظرة تمامًا هو الصحيح. إن عقل الإنسان فريدٌ من نواحٍ شتّى، ومن ذلك أن الإنسان ينال "أدوات فريدة" من بُنى عقليّة تنمو في الظروف التي تمنحها التجارب (وإذا ما أردت استخدام التعبير الشائع الذي أظنه مُضلّلا فسأقول: أن البُنى الإداركيّة "تُعلّم"). يصعب تخيّل أن هذا "التفرّد" يحدث دون أي بُنية؛ ورغم أن هذا الاعتقاد أثريٌّ إلا أنه لا يزال يُهيمن بشدّة على الخيال المعاصر. نعرف القليل عن عقل الإنسان والبُنى الإداركيّة البشريّة لكن ما نعرفه يُقدّم افتراضًا مغايرًا تمامًا: ثمّة برنامج جينيّ مُحدّد يُحدّد الخصال الأساسيّة لـ"أعضائنا العقليّة" وهو ما يجعلنا (وبشكل مُوحّد) نُشيّد ذات المنظومات المعرفية والاعتقادية الثريّة المُقعدّة استنادًا على أدلّة محدودة جدًا، ويمكن أن أضيف أن هذه النظرة لن تفاجئ البيولوجيين والبيولوجيات ولا سيما فيما يتعلق باللغة البشريّة،[27] وأعتقد أن المُشتغلين والمُشتغلات بالفسيولوجيا العصبيّة سيجدون هذا المبدأ طبيعيًّا، بل واضحًا جدًا.
علينا ألا نكتفي بأقوال مُبهمة وصفيّة كهذه، ففي دراسة اللغة البشريّة على الأقل ثمّة نظريات تعُزّزها أدلة مُلفتة، وأظن أنها مُعتبرة وقادرة على تفسير المعالم العامّة للبرنامج جينيّ الذي يجعل من الممكن حيازة اللغة بشكلها الذي تنتهي إليه. لا سبب يجعلني أشكّ أن ذات الأمر سيُكتشف في بقيّة المجالات كلما ازداد فهمنا لبُنية القدرات الإداركيّة البشريّة. إذا ثبت ذلك، يجوز لنا أن نعتبر فطرة الإنسان نظامًا كغيره من النُظم المعهودة في العالم البيولوجيّ، أي أنها نظام يتكون من "أعضاء عقليّة" تستند على آليات محسوسة لا نعرفها اليوم لكن اكتشافها (من ناحية المبدأ) ممكن، وأن هذا النظام يمنحنا ذكاءً فريدًا يتجلى في اللغة البشريّة وفي قدرتنا على تصوّر الأرقام والمساحات النظريّة[28] وتشييد نظريّات علميّة في مجالات مُعيّنة وبناء منظومة من الفنون والخرافات والطقوس وتفسير التصرّفات البشريّة وبناء مؤسسات اجتماعيّة مُحدّدة وفهمها وغير ذلك من القدرات.
تقتضي فرضيّة "الكائن المُفرّغ" أن البشر متساوون في مَلَكاتهم الفكريّة، بل الأدق من ذلك القول بأنهم متساوون في عدم مقدرتهم على حيازة بُنى إداركيّة مُُعقّدة كالتي تُميّز البشر. أما لو افترضنا أن هذا الكائن البيولوجيّ له قدرات خاصّة كغيره من الكائنات، فيمكن حينها أن نخلص إلى وجود اختلافات بين الأفراد في قدراتهم العقليّة العُليا، بل سيكون صادمًا ألا يكونوا مختلفين إن كانت مَلَكاتهم الإداركيّة (كمَلَكة اللغة) نتيجة لـ"أعضاء عقليّة". من الواضح أن الناس يختلفون في صفاتهم المحسوسة وقدراتهم المحسوسة، فلماذا لا تتسبّب الجينات أيضًا في اختلاف صفات أعضائهم العقليّة والبُنى المحسوسة التي تستند عليها؟
إن البحث في مَلَكة اللغة بصفتها قدرة إدراكيّة مُحدّدة يقودنا إلى نظرياتٍ مُحدّدةٍ وأعتقد أنها نظرياتٌ مؤثّرةٌ عن الأساس البُنيويّ الجينيّ للغة، لكنه لا يعطينا أدلّة عن مجالات التباين. لعل سبب ذلك قصورٌ في أدواتنا التحليليّة، أو قد يكون لأن أساس القدرات تلك فعلا غير متباين (إلا في الحالات المَرَضيّة الواضحة) إذ نلاحظ أنه وعلى نطاق واسع جدًا، وبعد تتبع مفصّل، لا توجد اختلافات في قدرة الناس على اكتساب اللغة البشريّة واستخدامها بفعاليّة، لكن قد توجد اختلافات فيما يُكتسب لأنه من الواضح أن استخدامات الناس للغة تختلف. لا أرى مبررًا للدوغمائية هنا. إن ما نعرفه عن بقيّة القدرات الإداركيّة قليل جدًا لدرجة تجعل مجرّد التخمين صعبًا. لعل تجاربنا الحياتية تجعلنا نعتقد أن الناس يختلفون فعلا في قدراتهم العقليّة وفي تخصصاتهم، ولن نتفاجأ إذا ثبت ذلك، ولا سيما إذا ما افترضنا أن نتعامل مع بُنى تظل بيولوجيّة مهما كانت مُعقّدة ومذهلة.
كثير من الناس ولا سيما من يعتبرون أنفسهم في الطيف السياسيّ لليسار الليبراليّ يمقتون هذه الخلاصات. لعل فرضيّة الكائن المُفرّغ نالت جاذبيتها عند اليسار لأنها تجعل مطامحه ممكنة، إذ لا مجال للتباين إن غابت المَلَكات عن الجميع. بيد أنه يستشكل عليّ فهم السبب الذي لأجله يعتبرون هذه الخلاصات مزعجة. أنا شخصيًا مقتنع وبشكل تامّ أني مهما نلت من تدريب أو تعليم لن أعدو لأربعة أميال، ولن أكتشف مبرهنات غودل Godel's theorems، ولن أألف رباعيات بيتهوفن، ولن أبلغ منزلة الإنجازات الإنسانيّة الغفيرة الأخرى، لكني لا أشعر أن هذا النقص يخذلني. يكفيني أني قادر (كما يقدر كل شخص بما عنده من مَلَكات عاديّة) أن أُقدّر ما أنجزه الآخرون وأفهمه، وأن أُقدّم في ذات الوقت إسهاماتي بالكم والكيف الذي أقدر عليه. تتباين مواهب البشر في إطار معيّنٍ يشترك فيه هذا النوع الحيّ وهذا يسمح بقدر شاسع من الإبداع بما فيه ذلك الإبداع في تقدير إنجازات الآخرين. ينبغي أن يكون ذلك مصدر سعادة بدلا من أن يكون مصدر أسى. من يفترضون خلاف ذلك يتبنّون حتما مسلّمة مُضمرة مفادها أن حقوق الناس أو عوائدهم الاجتماعيّة مرتبطة بقدراتهم، وهنا ثمّة جانب واحد فقط يُقبل به رأيهم وسبقت الإشارة إليه: وهو أنه في المجتمع الشريف، ينبغي أن تتوافق الفرص قدر الإمكان مع الحاجات الشخصيّة، وهذه الاحتياجات قد متخصّصة بحسب المواهب والقدرات. تتعاظم سعادتي حين يؤدي الناس ما لا يمكنني القيام به، ولا شيء يدفعني لحرمان الناس من فرصة تسخير مواهبهم بما يتوافق مع الحاجات الاجتماعيّة العامّة. في كل جماعة اجتماعيّة فاعلة ستطرأ أسئلة عملية صعبة بالتأكيد، لكني لا أرى مشكلة في المبدأ.
فيما يخص العوائد الاجتماعيّة، يُدّعى أنها في مجتمعنا مرتبطة إلى حدّ ما بدرجة اختبار الذكاء IQ، ولكن حتى لو صدق ذلك فهو مجرّد مَرض اجتماعيّ ينبغي التغلّب عليه كما كان ينبغي القضاء على العبوديّة في مرحلة أبكر من التاريخ الإنسانيّ. يُدّعى أحيانا أن العمل الإبداعيّ البنّاء سيتوقف ما لم يقد إلى عوائد ماديّة، وبالتالي فالمجتمع بأسره يستفيد حين ينال المبدعون والمبدعات عوائد خاصّة. الرسالة الموُجهة لغالبيّة السكّان إذًا: "وضعكم أفضل إن كنتم فقراء". يسهل أن نفهم لماذا يجذب هذا الاعتقاد أصحاب الامتيازات، لكن يصعب على من جرّب العمل المبدع الدفاع عنه كما يصعب على العاملين والعاملات في الفنون والعلوم والحرِف وغيرها ذلك. لا أساس من الصحّة ولا المنطق للحجج المعهودة التي تدافع عن أن "النظام قائم على الكفاءة mertocracy"؛ إذ أنها تستند على أحكام مسبقة هي بدورها غير مقنعة، وسبق أن ناقشت هذه المسألة في مكان آخر، ولن أناقشها هنا.[29]
فلنفترض أن تقصّي فطرة الإنسان كشف أن البرنامج الجينيّ هو الذي يُحدد وإلى حد كبير القدرات الإداركيّة البشريّة وأن التفاوت بين الأفراد محصور في إطار مُشترك. يبدو لي أن ذلك متوقعٌ ومعقولٌ جدًا، وهي حالة مرغوبة، ولا أثر لها برأيي على تساوي الحقوق أو تساوي الأحوال، وسبق بيان ذلك.
أخيرًا فلنتأمّل مسألة العرق والمَلَكات الفكريّة. لاحظوا مجدّدًا أنه وفي المجتمع الشريف لن يكون لأي اكتشاف في هذه المسألة أي آثار اجتماعيّة. الأفراد هم الأفراد إلا إذا ما تبنّينا الافتراضات العنصريّة التي مفادها أن الفرد نموذج للعرق الذي صُنّف فيه، وحينها تترتّب آثار اجتماعيّة عند اكتشاف أن متوسّط صفة ما في عرق ما يبلغ كذا وكذا. إذا ما قضينا على الافتراضات العنصريّة، فلن يكون لتلك الحقائق (أيًا تكن) أي آثار اجتماعيّة، وبالتالي لا قيمة لمعرفتها من هذه الناحية على الأقل. الغاية الوحيدة من بحث العلاقة بين العرق وقدرة ما تنشأ من القيمة العلميّة لذلك السؤال، ويصعب أن نكون دقيقين في تحديدنا للأسئلة التي هي ذات قيمة علميّة، لكن يمكن القول وبشكل تقريبي أن للتقصّي قيمة علميّة إذا ما كان لنتائجه تداعيات على مبدأ علمي عامّ. لا تجد أحدًا يتقصّى مصير حبّات العشب في حديقة ما، أو غير ذلك من الأسئلة الهامشيّة عديم الجدوى. إن تقصّي مسألة كاختبار الذكاء والعرق لا يبدو ذا قيمة علميّة. من الوارد أنه ثمّة اهتمام في بحث العلاقة بين الصفات التي تُورّث بمقدار ما، لكن إذا كان أحدهم مهتمًا بهذا السؤال، فلن يختار صفتين كالعرق واختبار الذكاء لأن كلًا منهما خليطٌ متداخلٌ من خواصٍ مبهمةٍ مُعقدّةٍ، بل سينظر في وجود علاقة بين صفاتٍ مؤثّرةٍ يمكن قياسها كلون العين وطول إبهام الرِجل، ولذا يصعب تبرير دراسة العلاقة بين العرق واختبار الذكاء على أرضية علميّة.
بما أن هذا التقصّي ليس ذا قيمة علميّة ولا اجتماعيّة، اللهم فيما عدى الافتراض العنصريّ الذي مفاده أن علينا معاملة الأفراد ليس بصفتهم الفرديّة بل بصفتهم يُمثّلون متوسّط العرق الذي يُصنّفون فيه، فيمكن أن نخلص إلى أن هذا التقصّي ليس ذا قيمة مطلقًا. السؤال إذا: لماذا يتم التعاطي معه بحماس؟ولماذا يُعامل بجدية؟ نجد أنفسنا أمام افتراضات عنصريّة مهمٌ القبول بها لمواصلة هذا االتقصّي.
في مجتمع عنصريّ يجوز أن نتوقع أن تقصّي مسألة العرق واختبار الذكاء يوطّد الأحكام المسبقة، وذلك يحدث إلى حد كبير بغض النظر عن نتيجة ذلك التقصّي. عندما نتعاطى مع مفاهيم كـ"العرق" و"اختبار الذكاء" من المتوقع أن تكون النتائج غامضة ومتضاربة، وأن تكون أسبابها أعقد وأصعب من أن يتتبعها رجل الشارع. بالنسبة للعنصريّ فالقول بأن شيئًا ما "غير مثبت" سيُفهم بأنه "صحيح على الأرجح". سيسرح العنصريّ ويمرح في أحكامه المسبقة. إن مجرّد تقصّي هذه المسألة يوحي بأن نتائجها مُهمّة، وبما أنها مُهمّة فقط إذا ما تبنّينا افتراضات عنصريّة، ستنتشر هذه الافتراضات حتى لو لم يُصرّح بها. لذات الأسباب، كان سيعجب الدولة الألمانيّة النازيّة بحثٌ علميٌ يتقصّى الخواص الجينيّة لليهود. مما لا شكّ فيه أن بحث العرق واختبار الذكاء كان مضرًّا للغاية على ضحايا العنصريّة الأمريكيّة. سمعت من معلمين سود ومعلّمات سود حديثًا شجيّا عن المعاناة والشرخ الذي حدث للأطفال الذين قيل لهم أن "العلم" أثبت أمرًا ما عن عرقهم، أو أنه يجد بحث هذه المسألة مهمًا حتى.
لا يجوز لنا أن نتجاهل أننا نعيش في مجتمعٍ عنصريّته متأصّلة رغم أننا نود أن ننسى ذلك. عندما هاجم محررو نيويورك تايمز ومحرراتها وسفير الولايات المتحّدة لدى الأمم المتّحدة موينيهان Moynihan رئيس أوغندا عيدي أمين Idi Amin لأنه "قاتل عنصريّ" (ولعلهم محقين في ذلك) عمّ الفخرُ البلاد وصُفّق لشجاعتهم وصدقهم، لكن لن يبلغ بأحد البذاءة أن يلاحظ أن ذات المحررين والمحررات وذات السفير في الماضي القريب دعموا القتل العنصريّ الذي كان على نطاق أوسع مما قد يحلم به عيدي أمين. حين لا يصدمنا هذا النفاق فذلك يعكس، أولا، السلطة الأيوديلوجيّة القويّة التي تمنعنا من إدراك أخطائنا وإدراك جسامتها؛ وثانيًا، يعكس التزام وطننا المتأصّل تجاه العنصريّة. لم يكن ضحايا حروبنا في آسيا يعتبرون بشرًا كاملين، ويمكن إثبات ذلك بسهولة بالغة، وسيلاحقنا هذا العار أبدًا، أما عنصريّتنا المحليّة فغنيّة عن التعريف.
إن العالِم كغيره من الناس مسؤولٌ عن التنبأ بعواقب تصرّفاته، وهذا أمر واضح وشائع فهّمه، ولنتأمّل مثلا الحالات التي يُستخدم فيها البشر في التجارب. المسألة الحاضرة أمامنا الآن (وهي تقصّي العرق واختبار الذكاء) وبغض النظر عن نتيجتها ستكون لها تكلفة اجتماعيّة باهضة للأسباب التي ذكرتها قبل قليل. إن على العالِم الذي يتصدّر لهذا التقصّي أن يُظهر أنه أهميته تفوق تلك التكلفة. إذا ما أصر أن التقصّي مبررٌ لأنه قد يقود إلى تصحيح محتمل لمنهجية العلوم الاجتماعيّة كما قال رئيس جامعة بوستن Boston University جون سلبر John Silber (في مجلة Encounter لأغسطس 1974)، فهو يكشف معياره الأخلاقيّ، فبالنسبة له: المساهمة المحتملة لمنهجية البحث تعلو التكلفة الاجتماعيّة لدراسة العرق واختبار الذكاء في مجتمع عنصريّ. يظهر أن المدافعين يظنون أنهم يدافعون عن الحريّة الأكاديمية، لكن هذا خلط للأوراق: حريّة البحث مطروحة هنا بشكلها التقليدي: هل للبحث المقصود تكاليف، وإذا كان كذلك، فهل أهميته تعلو على هذه التكاليف؟ لا يجوز للعالِم أن يتجاهل الآثار الراجحة لما يفعل.
عندما تُطرح مسألة العرق واختبار الذكاء، فالذين يدركون تكلفتها الاجتماعيّة الباهضة ويخشونها يجدون أنفسهم -بشكل ما- في ورطة: فهم يرفضون هذا العمل بالحجج التي ذكرتها آنفًا، لكنهم يرفضونه في مجتمع عنصريٍّ اعتاد الناس فيه أن يُحيلوا المهم من المسائل الإنسانيّة والاجتماعيّة إلى "الخبراء المختصين" الذين عادة ما يصدق وصفهم بأنهم خبراء في "التعتيم على الحقائق والدفاع عن الامتيازات" وبأنهم "خبراء في الشرعنة" كما وصفهم غرامشي، وعواقب ذلك واضحة. أو قد يجدون أنفسهم في جدل يوطّد بدوره الاعتقاد بأن نتائج البحث فارقة، وهذا يدعم الفرضيّة العنصريّة التي يستند عليها هذا الاعتقاد أصلا. وهكذا فعندما نفنّد العلاقة المُدّعاة بين العرق واختبار الذكاء (أو بين العرق والصفة س، أيًا تكن الصفة س)، فنحن نوطّد الافتراضات العنصريّة، وليست المعضلة مقتصرة على هذه المسألة وحدها، إذ سبق أن تناولت ذلك عن نقاش القتل والعدوان.[30] في المجتمع المؤدلج بشدّة، لا مناص من هذه النتيجة، وهذا أمر مؤسف قد نمقته لكن يصعب أن نتجاوزه.
نعيش في ظروف تاريخيّة مُحدّدة ونعمل فيها، وقد نسعى لتغييرها لكن لا يمكن لنا تجاهلها لا في العمل الذي نبذل ولا في استراتيجيات التغيير الاجتماعيّ التي ندعو إليها ولا في التصرّفات المباشرة التي ننخرط فيها أو نُحجم عنها. يصعب عند نقاش الحريّة والمساواة أن نفصل الحقائق عن الأحكام القيمية. علينا أن نسعى إلى ذلك الفصل بأن تتبع الحقائق حيثما قادتنا دون تصوّر دوغمائي مسبق، ولكن في ذات الوقت دون أن نتجاهل عواقب ما نفعل. علينا ألا ننسى أبدًا أن ما نقوم به يُحرّف ويُشوّه لا محالة إذ أن إجلال الخبراء إحدى الوسائل التي تفرضها المؤسسات الاجتماعيّة لتكريس الطاعة والسلبية، ولا يمكن أن نفرّ من هذا الواقع في مجتمع تأسس على تركيز السلطة والامتياز. هذه مسؤولية ثقيلة لا يبنغي أن يتحملها العلماء والعالمات والباحثين والباحثات في مجتمع شريف، فهناك لن يتنازل الأفراد للسلطات عن القرارات التي تمسّ حياتهم ومعتقادتهم. يمكن لنا -بل ينبغي علينا- أن نوصي بقيم بسيطة: الصدق والإخلاص، والمسؤولية والحرص. لكن العيش بتلك القيم ليس أمرًا سهلا.