العلم مؤسسةٌ اجتماعيةٌ يحفها سوء فهمٍ كثير، حتى لدى من ينتمون إليها. نعتبرُ العلم مؤسسة (بمعنى أنه خليط من طرق وأساليب وشخصيات ومحصول معرفي هائل)، لكننا نظن أن تلك المؤسسة معزولةٌ عن القوى التي تحكم حياتنا اليوميّة والتي تحدّد بُنية مجتمعنا، ونظنّ أن العلم موضوعي. أعطانا العلم الكثير من الأمور الحسنة، إذ زاد بشكل هائل إنتاج الغذاء، وزاد العمر المأمول من 45 سنة في بداية القرن التاسع عشر، إلى أكثر من 70 سنة في المناطق الغنية كأمريكا الشمالية، كما وصل البشر من خلاله إلى القمر، وجعل من الممكن المكوث في المنزل ومتابعة ما يجري في العالم.
في الوقت ذاته، فالعلم -كغيره من الممارسات المنتجة (كالدولة والعائلة والرياضة)- مرتبط بغيره من المؤسسات الاجتماعيّة، ويتأثّر بها، فالمشكلات التي يتعاطى العلم معها والأفكار التي يستخدمها لتتبع تلك المشكلات، بل حتى ما تُسمى بالنتائج العلميّة التي ينتجها التقصّي العلمي، كل ذلك يتأثر بشدّة بالأحكام المسبقة المأخوذة من المجتمع الذي نعيش فيه. لا يكون العلماء منذ بداية حياتهم علماء طبعا، بل يكونون أولاً كائنات اجتماعيّة منغمسة في الأسرة وفي الدولة وفي بُنية الإنتاج، وهم بالتالي ينظرون للعالم بالعدسة التي صاغتها تجربتهم الاجتماعيّة.
إضافة إلى تلك التحيّزات الشخصية، فالعلم أيضا يصوغه المجتمع لأنه نشاط إنتاجي إنساني يتطلّب وقتا ومالا وتحكمه (لأجل ذلك) ذات القوى التي تتحكم بالمال والوقت في العالم. يستغل العلم السلع، وهو في الوقت ذاته جزء من عملية إنتاج تلك السلع. كما يستغل العلم المال، إذ يكسب الناس قوت يومهم منه، ولأجل ذلك فالقوى الاجتماعيّة والاقتصاديّة المهيمنة تتحكم إلى حد بعيد بما يفعله العلم، وبكيفيّته. علاوة على ذلك، تأخذ تلك القوى من العلم الأفكار التي تتناسب خصّيصا مع استمرارية البُنى الاجتماعيّة التي ترعاها تلك القوى، وتجعلها مشروعةً وطبيعيّة. تلك العملية مزدوجة: فالعوامل الاجتماعيّة أولا تتحكم بما يفعله العلماء ويقولونه، ثم تستغل ما يفعله العلماء ويقولونه لتدعيم مؤسسات المجتمع، وهذا ما نقصده عندما نتحدث عن العلم حين يكون أيديولوجيا.
للعلم وظيفتان: الأولى أنه يمنحنا طرقا جديدة لتسخير العالم، بإنتاج تقنيات وممارسات واختراعات يمكن من خلالها إنتاج أشياء جديدة تتغير بها جودة حياتنا. تلك هي جوانب العلم التي يبرزها العلماء حين يطلبون المال من الحكومات، أو حين يظهرون على الصفحات الأولى للجرائد في سعيٍ منهم إلى تحسين صورتهم التي تكفل استمرار حظوتهم. نقرأ باستمرار أن "العلم اكتشف" شيئا ما، إلا أن تلك الإعلانات غالبا ما تكون مشروطة، كأن يُقال أن علماء الأحياء اكتشفوا "دليلا" على جين قد يساعد "يوما ما" في علاج "محتمل" للسرطان. ورغم أن هذه التقارير المفرطة في التفاؤل تستدعي التشكيك، إلا أنه ما من شك أن العلماء يغيرون فعلا طريقة تعاطينا مع العالم المادّي.
الوظيفة الثانية للعلم والتي تكون أحيانا مستقلة عن الأولى، وأحيانا مرتبطة بها هي وظيفة الشرح والتفسير. فحتى حين لا يقوم العلماء بتغيير العالم الماديّ الذي نعيشه، نجدهم يفسّرون باستمرار أحوال الأمور. يُقال أحيانا أننا نحتاج هذه النظريات لتغيير العالم في النهاية، فكيف لنا أن نعالج السرطان ما لم نفهم ما الذي يسببه؟ وكيف لنا أن نزيد إنتاج الطعام ما لم نفهم قوانين الجينات وتغذية النباتات والحيوانات؟
بيد أنه من الملفت ملاحظة مدى استقلال العلم تطبيقيًا عن نظرياته. وسأناقش في الجزء الثالث إحدى أشهر الأمثلة على التغيير العلمي للزراعة: وهي الذُرة المهجّنة التي دخلت كل أرجاء العالم. يُقال أن الذُرة المهجّنة إحدى أهم إنجازات علم الجينات الحديث التي تجلّت على الأرض، والتي ساعدت في إطعام الناس وتحسين أحوالهم، لكن تطوّر الذرة المهجّنة وجميع أشكال تلقيح النباتات والحيوانات يُمارس في الحقيقة بعيدا كل البعد عن أي نظريّة علميّة. بل إن كثيرا من تلقيح النباتات والحيوانات يُجرى بطرقٍ لا تختلف عن الطرق التي كانت في القرون الماضية، أي قبل أن يعرف أحد ما هي الجينات.
ذات الأمر ينطبق على محاولة علاج الأمراض القاتلة كالسرطان وأمراض القلب، فمعظم علاجات السرطان هي إما إزالة الورم النامي، أو تدميره بإشعاع قويّ أو مواد كيميائيّة قويّة. عمليًا، لا يعزى أيٌ مما تحقق من تطوّر في علاج السرطان نتيجةً لفهم عميق لأسس نمو الخلايا، رغم أن كل أبحاث السرطان (فيما عدى تلك الإكلنيكينة المحضة) مكرّسة لفهم أدق التفاصيل الحيويّة للخليّة. لا يزال الطبّ، رغم الحديث المفعم عن "علم الطب"، عملية تجريبية يمارس فيه المرء ما ينجح.
في الجزء الثالث أيضا أتناول العلاقة بين علم الأحياء والتغيّر في العمر المأمول[1] Life expectancy. ليس صحيحاً أن فهمنا للعالم مهمٌ لتسخيره. لكن تفسير العالم يخدم غرضا آخر وينجح فيه ببراعة بغضّ النظر عن الأثر العملي للدعاوى العلميّة، وهو غرض الشرعنة.
بغض النظر عن التوجهات السياسيّة التي يتبناها المرء، فعلى الجميع الإقرار أننا نعيش في عالم لا يتساوى فيه توزيع الرفاهيّة النفسيّة والماديّة. ثمّة أغنياء وفقراء، ومرضى وأصحّاء، وأشخاص يتصرّفون بحياتهم وعملهم وأوقاتهم (كالأستاذة الذين يُدعون لإلقاء المحاضرات عبر الراديو) وأشخاصٍ تسند إليهم المهام ثم يُتابعون عليها وليس لهم أي تصرّف بالجانبين النفسي والماديّ لحياتهم. ثمة دول غنيّة وأخرى فقيرة. ثمّة أعراق تهيمن على أخرى. ثمّة تفاوت بين الرجال والنساء في القوّة الاجتماعيّة والماديّة.
لطالما كان التفاوت في المكانة والثروة والصحة والسلطة موجودًا في كل مجتمع نعرفه. هذا يعني أنه في كل مجتمع ثمة صراع بين من يملك ومن لا يملك، بين من بحوزته سلطة اجتماعيّة، ومن نُزعت منه. من الأمثلة الحديثة على ذلك انتفاضة السود في أمريكا في الستينيات والسبعينيات والتي كان فيها تدمير لممتلكاتٍ كثيرة وإعادة توزيع كبيرة للمنتجات الاستهلاكية؛ ومثله النضال المسلح لقبائل الموهوك Mohawks في كندا ضد تغوّل سلطة الدولة وسلطة التجار على أراضيها. هذه مجرّد أمثلةٍ على تاريخ طويل من الصراعات العنيفة بين من يملك مكانة وثروة وسلطة وبين من لا يملكها. تسبّبت انتفاضات الفلاحين في القرنين السادس عشر والسابع عشر بتدمير كاسح للمحاصيل والعمران وفي هلاك مئات الآلاف، ولا يزال ما فعله الفلاحون الثوار مثل إميليان بوغاتشيف [2] Yemelyan Pugachev وستينكا رازين[3] Stenka Razin حاضرًا في الأغاني والقصص حتى اليوم. بُعيد استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا احتل مزارعو غرب ماساتشوستس بقيادة دانيال شايز Daniel Shays المحاكم ليمنعوا البنوك من مصادرة أراضي المزارعين بدعوى الدَين. نجحت البنوك في استدعاء قوات الجيش القاري[4] لإخماد تلك الثورة وكان لذلك تكلفة اجتماعيّة باهظة. لا شك أن مصلحة من يملكون سلطة في المجتمع تتحقق في منع مثل هذه الصراعات العنيفة والمدمّرة، وبفضل الشرطة يتحقق لهم الفوز.
عندما تحدث الصراعات، تنشأ مؤسسات تتدارك العنف بإقناع الناس أن المجتمع الذي يعيشون فيه عادل، أو (إن لم يكن كذلك) فلا سبيل لتغيير ما هو عليه، ولا جدوى للركون للعنف. تلك هي مؤسسات الشرعنة الاجتماعيّة، وهي تلعب دورًا في الصراع الاجتماعي، كالدور الذي لعبه تدمير المعدات في شغب النسّاجين في بريطانيا في القرن التاسع عشر. لكن تلك الأسلحة مختلفة تمامًا لأنها أسلحة أيديولوجية وأرض المعركة هي أذهان الناس، وبالفوز في المعركة على تلك الأرض، ضمانٌ للسلام والطمأنينة للمجتمع.
كانت الكنيسة المسيحية طوال التاريخ الأوروبي ومنذ إمبراطورية شارلمان المؤسسة الرئيسية للشرعنة الاجتماعيّة، إذ كان من فضل الله أن قدّر لكلٍّ مكانته في المجتمع، وكان الملوك يحكمون بأمر الله. يحدث أحيانا أن يقع فضل الله على شخص ما من العامة فيُنصّب حاكما، ويحدث أحيانا أن يُزال من حكمه كيوم زال فضل الله عن الملك تشارلز الأول King Charles I والدليل على زوال الفضل (كما قال الجنرال كرومويل Cromwell) أن رأسه قُطع. حتى أكثر القادة الدينيين ثوريةً كرروا دعاوى الشرعيّة حفاظا على الأمن العام، فحتى مارتن لوثر Martin Luther حثّ أتباعه أن يطيعوا سادتهم، وفي خطبته الشهيرة عن الزواج قال أن العدل إنما وُجد لحفظ السلام، وليس العكس. السلام هو المصلحة الاجتماعيّة العليا، والعدل مهم فقط إن كان في مصلحة هذا السلام.
كيما تتمكن مؤسسة ما أن تفسّر العالم لتشرعنه، يجب أن يتوافر لها عدة مزايا. عليها أولا أن تبدو وبشكل تامّ مستوحاة من مصدر خارجٍ عن الصراع الاجتماعي الإنساني المعهود؛ ويتحتمّ ألا تبدو صنيعة للقوى السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة بل أن تكون تنزّلت إلى المجتمع من مصدر متعالٍ على الإنسان. ثانيا، يجب أن تكون أفكارها وقواعدها ونتائجها صحيحة وذات مصداقية وأن تكون متعالية على خطأ الإنسان وتآمره، إذ يجب أن تكون تفسيراتها وتصريحاتها صحيحة بشكل مطلق وأن تكون مستوحاة من مصدر مطلق، ويجب أن تكون صحيحة في كل زمان ومكان. وأخيرا يجب أن تكون المؤسسة ذات طابع سرّي ومبهم وألا تكون إجراءاتها الداخلية ظاهرة للجميع، ويجب أن تكون لغتها متخصصة وأن يحتاج العامّة أن يشرحها لهم المختصون الذين يتدخّلون ليربطوا بين الحياة اليوميّة، ومصادر الفهم والمعرفة المبهمة.
تنطبق هذه الأوصاف بامتياز على الكنيسة المسيحية بل على كل الأديان المُوحاة، ولذلك لطالما كان الدين مصدرا للشرعنة الاجتماعيّة، فإذا كان فضل الله قد نال البعض فقط (سواءً كانوا كهنة أو قساوسة أو غيرهم من عموم المواطنين) وصاروا على اتصال بالوحي المقدس وبالإلهام، فيتعيّن أن نعتمد عليهم تماما لفهم المراد الإلهي.
بيد أن هذا الوصف ينطبق أيضا على العلم، ويجعل من الممكن للعلم أن يستبدل الدين وأن يكون القوّة المشرعنة الرئيسيّة في المجتمع الحديث. يدّعي العلم أن طريقته موضوعية وغير مُسيّسة وأنها صالحة لكل زمان. يؤمن العلماء بإخلاص أنه لولا المؤسسات التي فرضها السياسيون الجُهّال، لكان العلم متعاليًا على الصراع الاجتماعي. كرّس ثيودوسيوس دوبجانسكي Theodosius Dobzhansky (وهو عالم مشهور كان من اللاجئين عقب الثورة البلشفية الكارهين للبلاشفة) جهدا كبيرا في تبيين الأخطاء العلميّة الجسيمة التي كانت تقع في علم الأحياء وعلم الجينات في الاتحاد السوفيتي نتيجة لاتباع منهج تروفيم ليسينكو[5] Trofim Lysenko الذي لم يكن تقليديا. قيل لدوبجانسكي أن الواجب عليه (بحكم توجّهاته السياسيّة) ألا يشنّ هذه الحملة على ليسينكو. فهو كان يظن أن صراعًا عالميًا سيقع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وأن أخطاء ليسينكو العلميّة كانت تضعف بشدّة الإنتاج الزراعي السوفيتي. لماذا إذا لا يصمت عن أخطاء ليسينكو كي يضعف الاتحاد السوفيتي ويتضرر؟ كان جوابه أن واجب قول الحق يفوق كل ما سواه من التزامات، وأنه (بصفته عالمًا) ينبغي ألا يسمح لأي اعتبارات سياسيّة أن تمنعه من قول ما يظن أنّه صحيح.
ليست الوسائل والمؤسسات العلميّة وحدها التي يُقال أنها متعالية على العلاقات البشريّة المعتادة، بل يُقال أن ما ينتجه العلم حقيقة مطلقة، وأنه يكشفُ أسرار الطبيعة، وعندما تُكشف أسرار الطبيعة، يتعين على المرء أن يَقبل حقائق الحياة. عندما ينطق العلماء، تتوقف الكلاب على النباح. وأخيرا فالعلم ينطق بلغة مُبهمة. لا يستطيع أحد سوى الخبراء فهم ما يقوله العلم ويفعله،، ونحتاج وساطة أشخاص مميّزين (كصحفّيي العلوم والأساتذة الذين يتكلمون في الراديو) ليُفسّروا لنا أسرار الطبيعة، لأنها وبدونهم مجرّد معادلات لا يمكن فهمها، بل لا يمكن أيضا لعالمٍ أن يفهم معادلات عالمٍ آخر على الدوام. لما سُئل السير سولي زوكرمان Sir Solly Zuckerman (وهو عالم حيوانات مشهور) ماذا يفعل إذا صادف معادلة رياضية في ورقة علميّة، أجاب: "أُهَمهِم".
مهما ادّعى العلم أنه متعالٍ على المجتمع (كما ادعت الكنيسة من قبله) سيظل مؤسسة اجتماعيّة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، مؤسسةٌ تعكس وتكرّس القيم السائدة ووجهات النظر المُهيمنة في المجتمع في كل حقبة تاريخية. أحياناً تكون التجربة الاجتماعيّة (التي تمثلها النظريّة العلميّة) ويكون الاتصال المباشر بين النظريّة العلميّة والتجربة الاجتماعيّة صارخًا حتى في أدقّ التفاصيل، وأوضح مثال على ذلك نظريّة داروِين للتطوّر بالانتخاب الطبيعي. لا يشك أحد من العلماء أن الكائنات الحيّة التي تعيش على الأرض اليوم تطوّرت خلال مليارات السنين من كائنات لم تكن تشبهها أبدًا وأن كل الكائنات تقريبا انقرضت منذ مدة طويلة؛ كما نعرف أن تلك العملية طبيعيّة وسببها التفاوت في نجاة مختلف أشكال الحياة. هذا هو المعنى الذي نقبل به الداروينية.
لكن تفسير داروِين للتطوّر أمر آخر، إذ ادعى وجود صراع عامّ للبقاء لأن عدد الكائنات الحيّة التي وُلدت فاق عاد الكائنات الحيّة التي كان ممكنا لها النجاة والتكاثر، وفي صراع البقاء هذا، كانت الكائنات الأكثر كفاءة وذات التصميم الأفضل والأذكى والتي كانت بُنيتها بشكل عام أنسب للصراع تتكاثر أكثر من غيرها. يحدث التغيير التطوّري نتيجة للفوز في صراع البقاء هذا.
بيد أن داروِين نفسه كان واعيا بمصدر أفكاره المتعلقة بصراع البقاء إذ ادّعى أن فكرة التطوّر بالانتخاب الطبيعي طرأت له لما قرأ "مقالة في السكان" "Essay on Population" الشهيرة لتوماس مالتوس Thomas Malthus وهو كاهن واقتصادي عاش في أواخر القرن الثامن عشر. قدّمت تلك المقالة حجّة لمعارضة قانون الفقراء الإنجليزي الذي اعتبره مالتوس ليبراليًا أكثر مما ينبغي، وكان مؤيدا لرقابة أشدّ على الفقراء كي لا يتلاقحوا فيخلقوا اضطرابًا اجتماعيًا. الحقيقة أن نظريّة داروين للتطوّر بالانتخاب الطبيعي كلها تشبه إلى حد مريب النظريّة السياسيّة الاقتصاديّة لبدايات الرأسمالية التي أسسها الاقتصاديون الإسكوتلنديين. كان داروِين يعرف أن النجاة الاقتصاديّة للأصلح لأنه كان ينال قوت يومه من الاستثمار في الأسهم ومتابعتها في الصحف اليوميّة. ما فعله داروِين كان أن أخذ النظريات السياسيّة الاقتصاديّة لبدايات القرن التاسع عشر ليوسّعها لتشمل الاقتصاد الطبيعي بأسره. علاوة على ذلك، أسس داروِين نظريّة للانتخاب الجنسي في التطوّر (سنتحدث عنها في الجزء الرابع) والمحرّك الرئيس فيها التنافس بين الذكور على أن يكونوا أكثر جاذبيّة للنساء المُحكِّمات. أريد لهذه النظريّة أن تفسّر السبب الذي لأجله كانت ألوان ذكور الحيوانات زاهية، كما تفسر رقصات التزاوج المعقّدة. لا نعرف هل كان داروٍين واعيا بأن نظريته للانتخاب الجنسي كانت قريبة جدا من النظرة السائدة في العهد الفيكتروي لعلاقة ذكور الطبقة الوسطى بإناثها. عندما تُقرأ نظريّة داروِين تبدو لنا تلك السيدة الصغيرة المحترمة جالسة على أريكتها بينما يطلب العشيق يدها وهو جاثٍ على ركبتيه بعد أن أخبر والدها كم يبلغ دخله.
بيد أن معظم التأثير الأيديولوجي من المجتمع والذي يتغلغل في العلم أكثر خفاءً من هذا بكثير، إذ يأتي بصورة افتراضات أساسيّة تغيب عن العلماء أنفسهم ويكون لها أثر عميقٌ على تفسيراتهم، والتي سيكون لها بعد ذلك أثرٌ في تكريس الطباع الاجتماعيّة التي قادت لتلك الافتراضات ابتداءً. إحدى تلك الافتراضات هي العلاقة بين الفرد والجماعة، وهي الإشكال الشهير بين الجزء والكل. كان المجتمع الأوروبي قبل القرن الثامن عشر يضع اعتبارا قليلا أو معدومًا لأهمّية الفرد، فكانت أفعال الناس تُردّ إلى الطبقة الاجتماعيّة التي ولدوا فيها، وكان الأفراد يتعاملون فيما بينهم بصفتهم ممثلين وممثلات لجماعاتهم. مثلا: لو وقع خلاف تجاريّ بين قسّيس وبائع فسيُحال القسّيس إلى المحكمة الكنسيّة، بينما يُحال البائع إلى محكمة الإقطاعي الذي ينتمي إليه وبالتالي فلن يكونا رهنًا لذات الحُكم. لم يكن يُنظر إلى الأفراد بصفتهم سببا لتلك الترتيبات الاجتماعيّة، بل نتيجة لها.
علاوة على ذلك، لم يكن للأفراد حريّة التنقّل في النظام الهرمي الاقتصادي. كان للفلاحين والاقطاعيين على السواء واجبات، وكانت تلك الواجبات تربط بينهم. لم تكن توجد قوّة عاملة تتنافس وتتنقّل بحريّة ولم يكن للشخص أن يبيع عمله في سوق العمل. جعلت تلك العلاقات إنشاء رأسمالية منتجة -كالسائدة في زماننا- أمراً مستحيلا، إذ أن من الضروري أن يكون للأفراد حريّة التنقل من مكان إلى آخر، ومن مهمة إلى أخرى، ومن حال إلى حال، وأن يتعاملوا فيما بينهم كسكان تارة، وكمنتجين تارة، وكمستهلكين تارةً أخرى. كان واجبا مثلا أن يُلغى الإقطاع في روسيا في منتصف القرن التاسع عشر بسبب نقصٍ في عمّال المصانع في الوقت الذي كان القانون يمنع الفلاحين والفلاحات من العمل في المصانع. بلغ الأمر أن كان ملاك الفلاحين يرسلون فلاحيهم إلى المصانع، وهو ما قاد الفلاحين إلى التماس تدخّل القيصر.
كانت سمة العلم الذي نشأ في العصور الوسطى وعصر النهضة أن رأى الطبيعة بأسرها وحدة لا تتجزأ. يمكن تحويل الأحياء إلى أموات والأموات إلى أحياء إذا ما عرفنا معادلةً سريةً. لم يكن ممكنًا فهم الطبيعة بتفكيكها لأن القيام بذلك يعني تحطيم أسسها. قال الشاعر الإسكندر بوب Alexander Pope: "كأن تسعى إلى تتبّع الحياة في الكائنات التي تُشرّحها؛ تفقدها عندما تقطعها". وكما كانت المنظومة الاجتماعيّة كلا لا يتجزّأ، كانت الطبيعة.
بيد أن نظرة اجتماعيّة جديدة تمامًا نشأت عندما تغيّرت المنظومة الاجتماعيّة وتأسست الرأسمالية الصناعية، وصار الفرد أساسيًا ومستقلا، كأنما هو ذرّة اجتماعيّة يمكن لها أن تتحرّك من مكان إلى آخر وأن تلعب دورًا أو آخر. صار يُنظر إلى المجتمع بصفته نتيجة لصفات الأفراد، وليس المسبب لها. الأفراد هم من يصنع المجتمع. تأسّست النظريات الاقتصاديّة الحديثة على تفضيلات المستهلكين والمستهلكات. تتنافس الشركات فيما بينها، وتستبدل بعضها بعضًا. للأفراد سلطة على أجسادهم وعلى قدرتهم على العمل، وهو ما سماه ماكفيرسون MacPherson "الفردانية التملّكيّة - Possessive Individualism". رافق هذا المجتمع (الذي تحوّل إلى ذرّات) نظرة جديدة للطبيعة، وهي النظرة الاختزالية Reductionism. صار الاعتقاد أن فهم الكل لا يكون إلا بتجزئته، وأن المكوّنات فُرادى والذرّات والجزئيات والخلايا والجينات هي التي تسبّب صفات الكائنات الكلية وأن علينا أن ندرسها بشكل منفصل كي نفهم الطبيعة المعقدّة. كانت نظريّة داروِين نظريّة في التفاوت في معدّل التكاثر بين الأفراد، وبالتالي فكل ظاهرة التطوّر كان ينبغي أن تُفهم على هذا المستوى الفردي. علم الأحياء الحديث بأسره، بل كل العلوم الحديثة، تعتبر تشبيه الساعة الذي قدمه رينيه ديكارت في الجزء الرابع من خطاباته التشبيه الأمثل لدورها. ديكارت بصفته متدينا استثنى روح الإنسان من "الحيوان الآلة" لكن سرعان ما صارت جزءًا من التصور الراهن لـ"الإنسان الآلة". ينظر العلم الحديث إلى العالم بشقّيه: الحيّ والميت، بصفته نظاما كبيرًا ومُعقّدًا من التروس والرافعات.
السمة الثانية لتبّدل النظرة العلميّة كانت في التفريق القاطع بين الأسباب والنتائج. ينبغي للأشياء أن تكون أحد هذين الأمرين. ومجددًا ففي نظرة داروِين، كانت البيئة تؤثر على الكائنات الحيّة التي كانت معفولاً به، بينما كان العالم الخارجي هو الفاعل. هذا التغريب الذي طال الكائن الحيّ عن عالمه الخارجي مآله أن للعالم الخارجي قوانينه المستقلة عن الكائنات الحيّة، ولا يمكن بالتالي للكائنات أن تغيّرها. تتعامل الكائنات مع العالم بصفته واقعا تتأقلم معه أو تموت. "الطبيعة: أحبِّها أو اِترُكها." سأبيّن في الجزء الخامس أن تلك النظرة قاصرة وغير صحيحة ولا تُعبّر عن العلاقة الحقيقة بين الكائنات والعالم الذي تعيش فيه، وهو العالم الذي تصنعه الكائنات إلى حد بعيد حين تعيش فيه.
إذًا فأيديولوجيا العلم الحديث ومنه علم الأحياء الحديث، تجعل الذرّة أو الفرد المصدر المسبّب لكل الصفات الكليّة الكبرى، وأسلوبها لدراسة العالم يسعى لتجزئته ودراسة خصائص أجزائه الصغيرة، كما تُقسِّم العالم إلى نطاقات مستقلة قائمة بذاتها: داخلية وخارجية. الأسباب إما أن تكون داخلية أو خارجية، ولا يوجد علاقة بين هذه وتلك.
سبّبت تلك النظرة بالنسبة لعلم الأحياء تحديدًا تصوّرًا مُحدّدًا عن الكائنات الحيّة وعموم نشاطاتها في الحياة. تُحكم الكائنات الحيّة بعوامل داخلية، وهي الجينات. في زماننا الحاضر جيناتنا وجزيئات أحماضنا النووية هي ما يعادل "فضل الله" في السابق، ووفقا لهذه النظرة سنفهم ما نحن عليه إذا ما فهمنا تركيبة جيناتنا. يطرح العالم من حولنا تحدياتٍ محددة لم نصنعها نحن ولكننا نخوض غمارها ككائنات. من الإشكالات مثلا: العثور على شريك أو شريكة، والعثور على الغذاء، والفوز في منافسة مع الآخرين، والاستحواذ على قدر كبير من موارد العالم واعتباره ملكاً لنا، وإذا ما كنا نملك الجينات المناسبة، فسنتمكّن من حل تلك الإشكالات، ليكون لنا نسلٌ أكثر. إذًا، فوفقًا لتلك النظرة فالحقيقة أن جيناتنا هي التي تنتشر من خلالنا، ونحن لسنا سوى وسيلة، أي مجرّد ناقلات مؤقتة ينتشر من خلالها هذا الجزيء (الذي ينسخ نفسه بنفسه) إلى العالم. يقول ريتشارد دوكنز Richard Dawkins، وهو أحد أشدّ المؤيّدين لهذه النظرة، أننا "روبوتات خرقاء" وأن جيناتنا "شكّلتنا جسدا وعقلا".
وكما أن الجينات في مستوى من المستويات هي التي تشكّل الأفراد، فإن الأفراد يُشكّلون في مستوى آخر الجماعات. إذا ما أردنا أن نفهم لمَ تتوزع المهام في مستعمرة للنمل بشكل معيّن، أو لماذا تطير الطيور بشكل معيّن، فليس لنا إلا أن ننظر إلى النمل فُرادى وإلى الطيور فُرادى، لأن تصرّف الجماعة نتيجة لتصرّفات الكائنات الحيّة فُرادى. بالنسبة للبشر فهذا يعني أن بنية المجتمع ليست سوى مجموع تصرّفات الأفراد. فإذا ما شنّ بلدنا حربا، فهذا لأننا عدائيون كأفراد؛ وإذا ما كنا نعيش في مجتمع تنافسيّ ريادي فسبب ذلك أن كلًا منا بصفته الفردية لديه رغبة في التنافس والريادة.
تُشكّل الجينات الأفراد، ويُشكل الأفراد المجتمع، وبالتالي فالجينات تُشكّل المجتمع. إذا ما اختلف مجتمع عن آخر فذلك لأن جينات أفراده تختلف عن جينات المجتمع الآخر. تتفاوت الأعراق فيما بينها جينيًا في مدى عدوانيتها وإبداعها وحسّها الموسيقي. بل إن الثقافة بأسرها تتشكّل من وحدات صغيرة، والتي يسميها علماء الأحياء الاجتماعيّة "وحدات ثقافيّة،" ووفقا لهذا المنظور، فالثقافة هي مجموعة وحدات وأجزاء منها تفضيلات جمالية، وتفضيلات في التزاوج، وتفضيلات في العمل والراحة. إذا ما فككنا تلك الأجزاء، فستتجلّى الثقافة أمامنا. وبذلك تكون الهرمية مكتملة: الجينات تشكّل الأفراد. وللأفراد تفضيلات وسلوكيات، ومن مجموع تلك التفضيلات والسلوكيات تتشكّل الثقافة، وبالتالي فالجينات هي التي تشكّل الثقافة. لذلك يحثّنا علماء الأحياء الجزيئية على أن نصرف كل الأموال المطلوبة لاكتشاف الحمض النووي للإنسان. يقولون أننا إذا ما اكتشفنا تسلسل الجزيء الذي تتكوّن منه كل جيناتنا، سنعرف ما هو الإنسان. عندما نعرف كيف تبدو أحماضنا النووية سنعرف لماذا بعضنا غنيّ وبعضنا فقير. بعضنا معافىً، وبعضنا مريض. بعضنا قوي، وبعضنا ضعيف، ولماذا تهيمن أمة على أخرى، أو يهمين جنس على آخر، أو يهمين عرق على آخر، بل سنعرف لماذا وُجد علم الأحياء ذاته، إذ أنه ليس إلا وحدات وأجزاء ثقافية متراكمة.
لقد اعتدنا على نظرة الآلة الذريّة في تفسير العالم والتي أسسها ديكارت لدرجة أننا نسينا أنها كانت مجرّد تشبيه. لم نعد نقول (كما كان ديكارت يقول) أن العالم يشبه الساعة، بل صرنا نظنّ أن العالم ساعة. لا يمكن أن نتخيل نظرة بديلة ما لم تكن من عصر ما قبل العلم. الساخطون والساخطات على العالم الحديث الذين يبغضون عيوب العلم كالتلوث والضوضاء والعالم الصناعي والرعاية الطبية التي تبالغ في اعتمادها على الأجهزة، والذين يرغبون في العودة إلى الطبيعة والأيام الخوالي، كانت ردّة فعلهم أن دعوا إلى العودة إلى وصف العالم بصفته كلٌ نغتاله إذا ما شرّحناه. بالنسبة لهم، لا جدوى من تفكيك أي شيء إلى أجزاء، لأننا بذلك نخسر الجوهر، وأفضل ما يمكن القيام به أن نتعامل مع العالم بكليّة.
لكن هذه النظرة الكليّة للعالم لا يمكن تحصيلها فهي ببساطة إبهام آخر لا يُمكّننا من تسخير العالم لمصلحتنا. سبق أن جرّبنا تلك النظرة الكلية المبهمة ولم تنجح. ليس العالم كائنا حيًا كبيرًا يُنظّم نفسه بنفسه لينتهي إلى غاية حميدة كما رأى المؤمنون بغايا Gaia [إله الأرض لدى الإغريق]. وعلى الرغم أنه من الصحيح نظريا أن "قطع زهرة يُشعر به في أبعد النجوم"، إلا أن عنايتي بحديقتي عمليا لا تؤثر أبدا على مسار نيبتون لأن قوّة الجاذبيّة ضعيفة للغاية وتقل بشدّة مع بُعد المسافة. ولذلك فمن الصحيح الإيمان أن العالم يمكن أن يُجزّأ إلى أجزاء مستقلة، لكن ذلك ليس منهجًا عامًّا لدراسة الطبيعة بأسرها. جزء كبير من الطبيعة، كما سنرى، لا يمكن أن يُجزأ إلى أجزاء مستقلة تُدرس بشكل مستقل، والاعتقاد بذلك محض أيديولوجيا.
التحدّي في تشييد نظرة ثالثة لا تتعامل مع العالم بصفته كل لا يتجزأ ولا بصفته وحدات وأجزاء يمكن فصلها ولها صفاتها التي يمكن دراستها بشكل منفصل. كلا الأيديولوجيتين (الأولى التي تعكس العالم الإقطاعي ما قبل الحديث؛ والثانية التي تعكس العالم التنافسي الفرداني الحديث) تَحُول دون إدراك ثراء التفاعل في الطبيعة. في نهاية المطاف، كلا النظرتين تَحولان دون فهمٍ ثري للطبيعة، وتَحولان دون علاج المشكلات التي نصّب العلم نفسه لعلاجها.
سننظر في الأجزاء القادمة بشيء من التفصيل إلى بعض تجليات الأيديولوجيا العلميّة الحديثة، وإلى المسارات الخاطئة التي قادتنا إليها. سننظر كيف اُستخدمت الحتميّة البيولوجيّة لتفسير التفاوت داخل المجتمع وبين المجتمعات وتبريره وادعاء أن ذلك التفاوت لا يمكن أبدا أن يتبدّل؛ كما سننظر في كيف أُسست نظريّة عن فطرة الإنسان (مستواحاة من نظريّة داروِين عن التطوّر بالانتخاب الطبيعي) لادّعاء أن المنظومة الاجتماعيّة لا يمكن أن تتبدّل لأنها طبيعيّة. سننظر في بعض المشكلات الصحية والأمراض التي جُعلت في الفرد ليكون الفرد مشكلةً على المجتمع، بدلا من أن يكون المجتمع مشكلةً على الفرد. كما سننظر في كيف أن العلاقات الاقتصاديّة البسيطة التي تتقنّع بقناع الطبيعة تقود مجالات كاملة للأبحاث البيولوجيّة والتقنية البيولوجيّة.
هذه الأمثلة وإن أريد أن تزيل وهم موضوعية العلماء وحقائقهم المتعالية عن القارئات والقراء، إلا أنه لا يراد لها لا أن تكون مناهضة للعلم ولا أن تدعو إلى التخلي عنه لصالح التنجيم والأفكار الحالمة، بل يُراد أن تزوّد القارئة والقارئ بحقيقة العلم حين يكون نشاطاً اجتماعيا وبتشكيك مُستحقّ في الادعاءات الكبيرة التي يدّعيها العلم الحديث عن فهم الوجود البشري. ثمّة فرق بين التشكيك والسخرية، فالأول يدعو إلى التصرّف، بينما الثانية تدعو للإحجام. ولذا فهذه الصفحات لها غاية سياسيّة أيضا وهي أن تشجّع القارئات والقراء على ألا يتركوا العلم للمختصّين والمختصّات، وألا يشعروا تجاهه بالحيرة والغموض، بل أن يطلبوا فهمًا علميًا رصينًا يشترك فيه الجميع.