ولد مجتمعنا (سياسيا على الأقل) عقب ثورات القرن السابع عشر في بريطانيا وثورات القرن الثامن عشر في فرنسا وأمريكا. أزالت تلك الثورات نظاما قديما تميّز بامتيازات أرستقراطية وجمود نسبي للأشخاص في المجتمع. ادّعت الثورات البرجوزاية في إنجلترا وفرنسا وأمريكا أن هذا النظام القديم غير شرعي، وأن مفكري تلك الثورات أنتجوا أيديولوجيا تجسّد الحريّة والمساواة. كان ديدرو والموسوعيون وتوم من منظري مجتمع "الحريّة والمساواة والأخوّة" الذي يتساوى فيه الجميع، كما أكد كُتّاب إعلان الاستقلال أن الحقائق السياسيّة "بديهية، وهي أن الرجال خلقوا متساوين، وأن خالقهم حباهم بحقوق معيّنة لا يمكن نكرانها والتصرّف بها، وأن من بينها الحق في الحياة، والحريّة، والسعي وراء السعادة" (وكان قصدهم هنا طبعا السعي وراء المال). وكانوا يقصدون حرفيا الرجال، إذ أن النساء لم يمنحن حق التصويت في الولايات المتحدة حتى عام 1920، أما كندا فمنحهن حقّ التصويت قبل ذلك بوقت أبكر قليلا وذلك في عام 1918، لكنهن لم يُمنحن حق التصويت في انتخابات المقاطعات حتى عام 1940. وبطبيعة الحال، لم يكونوا أيضا يقصدون كل الرجال، لأن العبودية استمرّت في المستعمرات الفرنسية وفي بحر الكاريبي حتى منتصف القرن التاسع عشر، واعتبر الدستور الأمريكي السود ثلاثة أخماس إنسان، وفي معظم تاريخ البرلمان الإنجليزي الديمقراطي، كان يتعيّن على الرجل أن يدفع ليُصوّت.
لتقوم الثورة ينبغي أن تكون الشعارات ملفتة لجموع الناس، ولا يمكن أن يجتمع الناس تحت شعار يقول: "المساواة للبعض،" ولذا كانت الشعارات الأيديولوجية بعيدة عن الواقع. إذا ما نظرنا إلى المجتمع الذي أنشأته تلك الثورات، نجد مقدارا كبيرا من التفاوت في الثروة والسلطة سواءً كان ذلك التفاوت بين الأفراد أو بين الجنسين أو بين الأعراق أو بين الأمم. لكن ورغم ذلك نسمع مرارا وتكرارا في المدارس، وعبر كل وسيلة من وسائل الاتصال أننا نعيش في مجتمع يقوم على أفرادٍ أحرار متساويين. لطالما كان هذا التناقض بين المساواة المزعومة في مجتمعنا وبين ما يُشاهد من تفاوت عظيم أكبر مآزق المجتمع خلال المئتين سنة الماضية (على الأقل في أمريكا الشمالية)؛ وهو الذي حرّك قدرا كبيرا من تاريخنا السياسي. كيف لنا أن نفسّر التناقض حين يحدث تفاوت كبير في مجتمع يدّعي أنه تأسّس على المساواة؟
ثمّة احتمالان. إما أن نقول أن كل ما قيل كان زيفًا ومحض شعارات أريد بها استبدال نظام الإقطاعيين القديم بنظام جديد لتوزيع الثررة والامتيازات، وأن التفاوت في مجتمعنا بُنيوي ومتجذّر في كل جوانب حياتنا السياسيّة والاجتماعيّة. لكن قول ذلك خطير، لأنه دعوة لثورة جديدة تكون وفيّة لطموحاتنا بالحريّة والمساوة للجميع. وهذه ليست فكرة يحبّها المدرسون والمدرسات، ومحررو الصحف ومحرراتها، وأساتذة الجامعة، والسياسيون والسياسيات الناجحون، وكل من عنده القدرة على تشكيل الوعي العام.
البديل لذلك وهو ما اعتُمد منذ بداية القرن التاسع عشر أن يُعاد تشكيل مفهوم المساواة، فبدلا من مساواة النتائج، يُقال أن المقصود مساواة الفرص. من هذا المنظور للمساواة، تصبح الحياة سباقًا. في الأيام التعيسة الخوالي للنظام البائد، كان الأرستقراطيين والأرستقراطيات يبدؤون عند خط النهاية بينما نبدأ جميعا عند خط البداية، ولذا كانوا يفوزون. بيد أن السباق في المجتمع الجديد عادل: يبدأ الجميع من نفس خط البداية، وللجميع فرصة الفوز بالمركز الأول. بطبيعة الحال، البعض أسرع، ولذا ينال البعض جوائز لا ينالها آخرون. ينطلق هذا المنظور من أن المجتمع القديم تميّز بعوائق مختلقة كانت تحدّ من المساواة، بينما المجتمع الحديث يفسح الطريق لأن يكون ترتيب المكانة والثروة والسلطة طبيعيًا.
هذه النظرة لا تهدّد الوضع الراهن، بل على العكس، فهي تدعمه لأنها تشعر من ليس عندهم سلطة أن مكانتهم هي النتاج الحتمي لقصورهم الذاتي، ولا يمكن القيام بشيء تجاهه. إحدى التصريحات الحديثة المباشرة عن هذا الأمر كانت لريتشارد هرنستين Richard Herrnstein، وهو عالم نفس من هارفرد وأحد أبرز المنظرين لفكرة التفاوت الطبيعي في زماننا. كتب:
"على الأرجح أن الطبقات التي كانت تحظى بامتيازات في الماضي لم تكن أفضل بيولوجياً من المطحونين والمطوحنات، ولذا كان للثورات فرصة سانحة للنجاح. حين أزال المجتمع الحواجز المختلقة بين الطبقات، شجّع خلق حواجز بيولوجيّة. عندما يتمكّن الناس من أن يشغلوا مكانهم الطبيعي في المجتمع، سيكون للطبقات العليا بطبيعة الحال قدرة أعلى من الطبقات الدنيا".
لا يُقال لنا بالضبط ما هو المبدأ البيولوجي الذي يُحتّم ألا يتمكن من هم أسوأ بيولوجيًا من الاستحواذ على السلطة ممن هم أفضل بيولوجيًا، لكن المسألة هنا ليست مسألة منطق. يُراد للتصريحات التي تشبه تصريحات هرنستين القول بأننا وعلى الرغم من أننا لا نعيش في أفضل عالم مُتصوّر، إلا أننا نعيش في أفضل عالم ممكن. بلغت إنتروبيا المجتمع أقصى مداها، وبلغنا أقصى مستوى ممكن من المساواة،[1] لأن البُنية في جوهرها قائمة على المساواة، وكل التفاوت الناتج ليس بنيويًا بل نتيجة تفاوت فطري بين الأفراد. كانت هذه أيضا نظرة القرن التاسع عشر، وكان يُنظر إلى التعليم بصفته المزلّق الذي يجعل السباق سلسًا. كتب لستر فرانك وورد Lester Frank Ward (وهو أحد علماء الاجتماع في القرن التاسع عشر) أن "التعليم العام هو القوّة التي ستقضي حتما على كل شذرة من شذرات التفاوت. إذ سيقضي بكل تأكيد على التفاوت المختلق بأكمله ليجعل التفاوت الطبيعي يبلغ مداه الحقيقي. تكمُن القيمة الحقيقيّة لطفل وليد في قدرته المجّردة -وحده- لاكتساب المقدرة لفعل مايريد".
ذات الأمر تكرّر بعد 60 عامًا على لسان أرثر جنسن Arthur Jensen من جامعة كاليفورنيا الذي كتب عن التفاوت في الذكاء بين السود والبيض قائلا: "ينبغي أن نواجه الحقيقة، لا يمكن أن تكون الأدوار الوظيفية التي يشغلها الناس عادلة بأي معنى مطلق؛ وكل ما يمكن لنا أن نأمله أن تُعطى الجدارة الحقيقيّة فرصة متساوية لتكون هي الأساس لعملية الترتيب الطبيعيّة".
لا يكفي الإقرار بأن سباق الحياة عادل وأن الناس يختلفون في قدرتهم الفطريّة على الركض لتفسير مشاهدات التفاوت. إذ يُلاحظ أن الأطفال يرثون إلى حد بعيد الحالة الاجتماعيّة لوالديهم. حوالي 60% من أطفال عمال الوظائف الصناعية يظلون عمال وظائف صناعية، بينما 70% من عمال الوظائف المكتبية، يظلون عمال وظائف مكتبية. حتى أن هذه الإحصاءات تبالغ في تقدير الحراك الاجتماعي، فمعظم الذين انتقلوا من وظائف "صناعية" إلى وظائف "مكتبية" انتقوا من العمل في خطوط إنتاج المصانع إلى العمل في خطوط إنتاج المكاتب أو أصبحوا موظفي مبيعات بمرتّب أقل وأمان أقل مع قيامهم بعمل يدمّر الروح والجسد، كتدمير العمل الذي كان يقوم به والدوهم في المصانع. أطفال عمال محطات الوقود عادة ما يقترضون المال من أبناء مدراء شركات استخراج النفط. لم يكن واردا مثلا أن ينتهي المطاف بنيلسون روكفلر[2] Nelson Rockefeller عاملاً في محطة وقود.
إذا كنّا حقًا نعيش في بلد يقوم على الجدارة، وإذا كنّا حقًا نعيش في مجتمع يمكن لكل شخص فيه أن يرتقي للمكانة التي تؤهله لها إمكاناته الفطريّة، فكيف نفسّر انتقال السلطة الاجتماعيّة من الوالدين إلى أبنائهم؟ هل عدنا فعلاً إلى العصر الأرستقراطي؟ وفقا لتفسير المذهب الطبيعي فنحن لا نختلف فقط في قدراتنا الفطريّة وحسب، لكن هذه القدرات الفطريّة ذاتها تنتقل بيولوجيا من جيل لآخر. هذا يعني أن تلك القدرات في جيناتنا، وبذلك تحوّلت فكرة الوراثة الاجتماعيّة والاقتصاديّة إلى وراثة بيولوجيّة.
لكن حتى الادعاء بأن قدرتنا الفطريّة على النجاح موروثة في جيناتنا لا يكفي لتفسير المجتمع المتفاوت. يمكن مثلا أن نتبنى وجهة النظر القائلة أنه لا ينبغي أن توجد علاقة بين ما نحققه وبين العوائد الاجتماعيّة والنفسية التي تُعطى لنا نتيجةً لما حققناه. يمكن أن نعطي ذات العوائد الماديّة والنفسية للعاملين والعاملات في الدهانة، والرسم، والجراحة، والحلاقة، وللأساتذة الذين يلقون المحاضرات، ولعمال النظافة الذين يأتون بعدهم لتنظيف الفصول. يمكن أن نؤسس مجتمعا تُحمل فيه يافطة: "من كلٌ حسب قدرته، لكلٌ حسب حاجته".
للتصدي لهذا الاعتراض على التفاوت الاجتماعي، أُسست نظريّة بيولوجيّة عن فطرة الإنسان مفادها أنه وإن كانت الاختلافات بيننا منبعها الجينات، فثمة أيضا أمور متشابهة فطريّة بيننا جميعا. تلك الأمور المتشابهة في الفطرة الإنسانيّة تضمن أن الاختلاف بين قدراتنا سيتحول إلى اختلاف في المكانة، وأن المجتمع بطبيعته هرمي، وأن المجتمع الذي يقوم على عوائد متساوية مستحيل بيولوجيًا. يمكن أن نشرّع قوانين تفرض المساواة، لكن في اللحظة التي تُرخى فيها سلطة الدولة، سنعود "للقيام بما هو طبيعي".
هذه الأفكار الثلاثة (أن بيننا اختلافات جوهرية بسبب اختلافاتنا الفطريّة؛ وأن المجتمع بطبيعته هرمي؛ وأن من المستحيل بيولوجيا أن تكون العوائد الاجتماعيّة والمكانة الاجتماعيّة متساوية) إذا ما أخذناها جميعا تشكّل ما نسميه الحتميّة البيولوجيّة.
لم يكن علماء البيولوجيا من ابتكر عبارة "العرق دسّاس"، بل كان هذا التوجه سائدا في كتابات القرن التاسع عشر، ويصعب فهم أشهر كُتاب القرن التاسع عشر دون إدراك أن نظريّة التفاوت الفطري هي التي ألهمت أعمالهم، ولنأخذ مثلا رواية تشارلز دكنز "أولفر تويست" Oliver Twist. عندما قابل أولفر للمرة الأولى جاك داوكنز في طريقه إلى لندن، كان التفاوت بينهما في الجسد والروح جليا. وُصف داوكنز أنه "أفطس الأنف مستوي الحاجب وجهه كوجه من وجوه العامة، وكانت قدماه مقوّستان، وعيناه صغيرتين حادتين قبيحتين"، ولم تكن لغته الإنجليزية فصيحة. ماذا عسانا أن نتوقع من فتى يتيم عمره 10 سنوات ليس له عائلة، ولا تعليم، وليس له أصحاب سوى أحقر مجرمي لندن؟ في المقابل، كلام أولفر مثالي، وأسلوبه راقٍ. وُصف أولفر بأنه طفل شاحب نحيل، لكن روحه التي في صدره صلبةٌ رغم أنه ترعرع منذ ولادته في إحدى أكثر المؤسسات البريطانية إذلالا وهي دور الرعاية، وكان يتيما بلا تعليم ولا طعام. وُصف أيضا بأنه أمضى أول تسع سنوات من حياته وهو يتقلب على الأرض طوال اليوم دون "أن يثقل كاهله الطعام الزائد ولا اللباس الزائد". كيف تسنّى لألوفر أن يكون متمكنا من قواعد اللغة الإنجليزية وقد مر بهذه الظروف العصيبة؟ رواية "أولفر تويست" رواية غموض، وهذا هو غموضها. فعلى الرغم من أن أولفر كان يقتات على الفتات، إلا أن دمه كان دم الطبقة المتوسّطة العليا إذ كانت أمه ابنة لضابط بحرِية، أما عائلة والده فكانت بوضعٍ جيد وذات حظوة اجتماعيّة.
هذه السمة كانت أيضا جليّة في رواية دانيال ديروندا Daniel Deronda لجورج إليوت. عندما يُقّدم دانيال أول مرة، يقدم كربيب لبارونيتي إنجليزي[3] يضيع وقته في المقامرة بحماقة. عندما يكبر، يجد نفسه ينحو بشكل غامض نحو كل ما هو عبري. يقع في حبّ فتاة يهودية ويدرس التلمود ويعتنق اليهودية. لن تتفاجأ القارئة والقارئ إذا عرفا أنه ابن ممثلة يهودية لم يسبق له أن رآها، لكنها في دمه. هذا ليس مجرّد هوس لدى الأنجلوساكسنيين، ففي روايات إملي زولا روغون-ماغارت Rougon-Macquart التي كُتِبت عمدا بصفتها تجربة أدبية لتبيين اكتشافات الأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر. يذكر زولا في المقدمة أن "للوراثة قوانينها كما الجاذبيّة". عائلة روغون-ماغارت تنحدر من عشيقين لامرأة واحدة، أحدهما كان فلاحا كادحا قويا، بينما الآخر كان وضيعا منحلا. تنحدر أسرة متماسكة صادقة من الفلاح الجدير بالثقة، بينما ينحدر من الآخرِ الوضيع أجيال متعاقبة ممن هم عالة على المجتمع ومجرمون ومنهم نانا المشهور الذي كان شهوانيا منذ صغره، وأمه جرفيز، التي كانت غسّالة للملابس، والتي رغم طفولتها المتماسكة والطموحة، إلا أنها عادت إلى كسلها الطبيعي. عندما دخل كوبو زوج جرفيز (ووالد نانا) المستشفى كان أول سؤال سأله الأطباء والطبيبات: "هل كان والدك سكّيرا؟" كان رأي العامّة في تلك الحقبة في أوروبا وأمريكا الشمالية أن الاختلافات الفطريّة في الطباع والجدارة ستطغى على أي مجهود في التعليم والبيئة.
الخيال الذي نشاهده في روغون-ماغارت يتكرر مرة أخرى في العائلة الخيالية (التي ظُنّ بأنها حقيقيّة) المسماة كليكاكس Kallikaks والتي استشهد بها في كل كتب علم النفس الأمريكية إلى الحرب العالمية الثانية. كانت عائلة كليكاكس نصفين من نسل امرأتين ذوا طبيعتين متناقضتين وأبٍ واحد. أريد لهذا الخيال الأكاديمي أن يُقنع العقول اليافعة أن الإجرام والكسل والإدمان على الكحول ونكاح المحارم كلها صفات فطريّة وموروثة.
لم تكن الاختلافات الفطريّة محصورة في التفاوت بين الأفراد، بل قيل أن الأمم والأعراق تختلف فطريًا في طباعها وقدراتها العقلية. لم تأتِ هذه الادعاءات من عنصريين دوغمائيين فاشيين الذين لا يعرفون شيئًا، بل جاءت من قادة المؤسسات الأكاديمية والنفسية والاجتماعيّة الأمريكية؛ ففي عام 1923 نشر كارل برغام Carl Brigham (وهو الذي أصبح لاحقا أمينا على اختبارات الدخول للكليات) دراسة عن الذكاء بإشراف بروفيسور علم النفس في هارفارد ورئيس الجمعية الأمريكية لعلم النفس آر.إم يركزR.M. Yerkes . كانت نتيجة الدراسة أن "علينا افتراض أننا نقيس الذكاء الفطري، وأننا نواجه احتمالية أن يكون الاختلاط العرقي هنا في أمريكا أسوأ من أي اختلاط لأي دولة أوروبية لأن الزنوج جزء من تشكيلتنا العرقيّة. سيكون تدهور الذكاء الأمريكي أسرع، وذلك يعود لوجود الزنوج".
رئيس آخر للجمعية الأمريكية لعلم النفس قال أنه وحيثما حصل تزاوج مع الزنوج، انحطّت الحضارات، وأفاد لوس أجاسز Louis Agassiz (وهو أحد أشهر علماء الحيوان في القرن التاسع عشر) أن غرز الجمجمة عند مواليد الزنوج تُقفل في وقت أبكر من غرز الجمجمة عند المواليد البيض، وبالتالي فأدمغتهم محصورة، سيكون خطرا تدريسهم أكثر مما ينبغي؛ بيد أن أكثر الادعاءات صدمة ما قاله رئيس متحف التاريخ الطبيعي الأمريكي هنري فيرفيلد أوسبورن Henry Fairfield Osborne، الذي كان أحد أبرز الباحثين في الأحافير وأرمقهم والذي درس تطوّر الأحصنة. كتب قائلا:
"احتلت الأعراق الشمالية دول الجنوب ولم يكن قدومها قدوم غزاة فحسب، بل قدوم من ساهم بشدّة بعناصر أخلاقيّة وفكريّة لثقافة كانت أقرب للانحطاط. من الشمال قدم أجداد رافائيل وليوناردو وغاليليو وتيتسيانو؛ ويقول غونتر أن ذات الأمر ينطبق على أجداد جيوتو وبوتيتشيلي وبتراركا وتاسو؛ كما أن كولومبس كما يبدو من صوره وتماثيله (سواءً كانت معبرة عن حقيقته أم لم تكن) يبدو من أصول شمالية."
بالتأكيد "سواءً كانت معبرة عن حقيقته أم لم تكن"! في الواقع،أكّد أبرز المفكرين لجماهيرهم، مرارًا وتكراراً، أن العلم الحديث يظهر اختلافات عرقية وفردية في الإمكانات. لم يَحِد عن ذلك علماء الأحياء الحديثة باستثناء انقطاع قصير فترة الحرب العالمية الثانية عندما جعلت جرائم النازية ادعاءات الدونية مرفوضة تماما. فيما عدا ذلك، كانت الحتميّة البيولوجيّة المنهج الذي ارتضاه علماء الأحياء الرئيسيون. بيد أن هذه الادعاءات كانت تُلقى دون أدنى دليل، وبما يعارض كل أدلة علم الأحياء والجينات.
وكيما ندرك خطأ هذه الادعاءات، علينا أن ندرك كيف ينمو الكائن الحيّ. أولا، جيناتنا لا تحدد من نكون، رغم أنها تؤثر علينا بلا شك. لا يقتصر النمو على المواد التي ورثناها من والدينا (وتلك هي الجينات والمواد الأخرى الموجودة في الحيوان المنوي والبويضة) لكن أيضا على درجة الحرارة والرطوبة والتغذية والروائح والمشاهدات والأصوات (ومن ذلك ما نطلق عليه التعليم) وكل ما يقع في طريق الكائن الحيّ. حتى لو عرفتُ التفاصيل الجزئية لكل جين من جينات الكائن الحيّ، لم يكن لي أن أتنبأ بمآل ذلك الكائن. إن الاختلاف بين الأسُود والخِراف يعتمد بشكل شبه كامل على جيناتها بالتأكيد، لكن الاختلافات بين الأفراد من ذات النوع ليست كذلك، بل هي نتيجة تفاعل فريد مستمر بين الجينات وبيئة النمو. علاوة على ذلك، ومما يثير الفضول، فحتى لو كنت أعرف جينات كائن حيّ وتسلسل بيئته كاملا، لا يمكن لي أن أصِف الكائن بدقّة.
ثمة عامل آخر يلعب دوراً في هذا. لو أحصينا عدد الشعيرات تحت جناح ذبابة الفاكهة على سبيل المثال، فسنجد اختلافا في عددها بين الجانبين الأيسر والأيمن، فبعض الذباب لديه شعيرات أكثر في اليسار، وبعضه لديه شعيرات أكثر في اليمين. لا يوجد معدّل لمقدار الاختلاف. ثمة تذبذب في عدم التناسق، ومع ذلك، فجينات الذبابة الواحدة متطابقة في الجانبين الأيسر والأيمن. علاوة على أن صغر حجم الذبابة أثناء نموها يضمن أن الجانبين الأيمن والأيسر لهما نفس الرطوبة والأكسجين والحرارة. لم يكن الفرق بين الجانبين الأيسر والأيمن نتيجة للجينات ولا اختلافات في البيئة، بل كان تفاوتًا عشوائيًا في نمو الخلايا وانقسامها أثناء مرحلة النمو، أي أنه كان ضجيجًا في النمو.
عنصر المصادفة أثناء النمو مصدر مهم للتفاوت. مما لا شك فيه أنه وبالنسبة لشعيرات ذبابة الفاكهة كان التفاوت الذي نتج عن ضجيج النمو يساوي التفاوت الذي نتج عن التفاوت الجيني والبيئي؛ لكننا لا نعرف بالنسبة للبشر كم هو مقدار التفاوت الناتج عن الاختلافات العشوائية في نمو العصبونات خلال الفترة الجنينية وخلال أوائل الطفولة مثلا. على سبيل المثال: رغم أن الحدس يُشعرنا أنه حتى لو تدرّب أحدنا على الكمان منذ بداية طفولته فلن يعزف كما عزف مينوهين Menuhin، لأننا نظن أن وصلاته العصبية كانت مميزة، إلا أن القول بذلك يختلف عن أن نقول أن تلك الوصلات العصبية موجودة في الجينات. قد يكون ثمة اختلافات عشوائية كبيرة في نمو أجهزتنا العصبية المركزية. من المبادئ التأسيسية لعلم جينات النمو developmental genetics أن كل كائن حيّ هو نتيجة تفاعل فريد بين الجينات وتسلسل البيئة وأن ذلك التفاعل تؤثر عليه أيضا احتمالات عشوائية في نمو الخلية وتقاسمها، وذلك كله يُنتج الكائن الحيّ. علاوة على ذلك، يتغير الكائن طوال حياته، فحجم الإنسان يتغيّر (ليس فقط حينما يكبر وهو طفل) بل حينما يصغر وتنكمش عظامه ومفاصله حين يشيخ.
ثمة نسخة أخرى أكثر تعقيداً للحتميّة الجينيّة، وهي تتفق في أن الكائنات الحيّة هي نتيجة تأثيرات بيئيّة وجينيّة لكنها تعتبر الفروقات بين الكائنات فروقات في المدارك. هذا هو "مجاز الدلو الفارغ". يبدأ كل منا حياته بدلو فارغ، وللدلاء أحجام مختلفة. لو وفّرت لنا البيئة القليل من الماء، فكل الدلاء سيكون فيها ذات المقدار من الماء. لكن لو وفّرت البيئة مقدارا فائضا، فستطفح الدلاء الصغيرة بينما ستخزّن الدلاء الكبيرة ماءً أكثر. وفقا لهذا المنظور، لو تمكّن كل شخص من أن ينمو ليبلغ مداركه الجينيّة فستوجد بلا شك اختلافات كبرى في الإمكانات والأداء، لكنها ستكون عادلة وطبيعيّة.
لكن مجاز المدارك الفطريّة ليس له أي سند في علم الأحياء كما هو حال مفهوم الإمكانات الجينيّة الثابتة. إن التفاعل الفريد بين الكائن الحيّ والبيئة لا يمكن أن يوصف بأنه اختلاف في المدارك. صحيح أنه لو وجد كائنان مختلفان جينيا في ذات البيئة، سيكونان مختلفين، لكن الاختلاف لا يمكن أن يُقال أنه اختلاف في المدارك لأن النوع الجيني قد يكون أفضل في بيئة، وأسوأ في بيئة نمو أخرى. على سبيل المثال: يمكن انتخاب سلالات من الفئران أفضل أو أسوأ في قدرتها على اجتياز متاهة، وستكون هذه الفئران قادرة على توريث قدرتها على اجتياز المتاهة إلى سلالاتها، ولذا فثمة بالتأكيد اختلاف جيني بهذا الصدد، لكن إذا أعطيت نفس السلالات مهام مختلفة أو إذا غُيّرت ظروف التدريب، فسيصبح الفأر الذكي بليدا والفأر البليد ذكيا. لا توجد فوقيّة جينيّة عامّة لسلالة من الفئران على أخرى في قدرتها على حل المشكلات.
ثمّة نهج آخر ماكر ومبهم تنحو له الحتميّة البيولوجيّة وذلك برفض الثبات الجيني في النظرة الأولى ورفض مجاز المدارك في النظرة الثانية، إذ تنحو، بدلاً عن ذلك، لنهجٍ إحصائي. ينصّ هذا النهج في جوهره أن أساس الإشكال هو تجزيء أثر البيئة وأثر الجينات لنستطيع قول أن 80% من الاختلافات بين الأفراد سببها الجينات، و20% سببه البيئة. يتحتم أن تكون هذه الاختلافات طبعا على مستوى عموم الناس بدلا من المستوى الفردي، فليس منطقيا أن نقول أن طول إحداهن لما كان 181 سنتيمتر ف152 سنتيمتر منها بسبب الجينات وما بقي من 29 سنتيمتر بسبب الطعام الذي تأكله. تتعاطى النظرة الإحصائية مع نسب التفاوت بين الأفراد بدلا من تجزيء مقاسات فردية معيّنة. يسعى المنحى الإحصائي لإسناد مقدار معين من مجموع التفاوت بين الأفراد والجماعات إلى جزء بسبب اختلاف بين جيناتهم، وجزء آخر نتيجة لاختلاف بيئاتهم.
ما يترتب على ذلك أنه إذا كان معظم الاختلاف في الذكاء بين الأفراد مثلا هو نتيجة لاختلاف في جيناتهم، فتغيير البيئة لن ينتج عنه اختلاف كبير. يُقال مرارا أن 80% من الاختلاف بين الأطفال في أدائهم في اختبارات الذكاء سببه اختلاف في جيناتهم، و20% فقط سببه بيئتهم. مآل ذلك أن أكبر تحسين للبيئة لا يمكن له إلا أن يقضي على 20% من الاختلاف بين الأفراد، وستظل الـ 80% موجودة لأنها نتيجة للاختلاف الجيني. هذه الدعوى خدعة كاملة الأركان رغم أنها تبدو معقولة. لا توجد أي علاقة بين أثر تغيير البيئة على الأداء ومقدار ذلك الأثر من جهة، وبين كون الاختلافات معزوّة للتفاوت الجيني أو التفاوت البيئي. يجب أن نتذكر أن أي طالب عادي في علم الحساب في المرحلة الابتدائية يمكن له أن يجمع سلسة من الأرقام بشكل أسرع بكثير من أذكى عالم رياضيات في روما القديمة. كان على ذلك العالِم أن يصارع أحرف X و V و I بشراسة. يمكن أيضا ولنفس الطالب العادي أن يضرب رقمين لهما خمسة حقول بآلة حاسبة يحملها بيده وتبلغ قيمتها 10 دولارات وبشكل أسرع وأدق مما كان يقدر عليه أستاذ للرياضات قبل قرن من الزمان.
يمكن لتغيير في البيئة (في حالتنا هذه: في البيئة الثقافية) أن يضاعف الأداء أضعافًا مضاعفة؛ ويمكن علاوة على ذلك القضاء على الاختلاف بين الأفراد باختراعات ثقافية وميكانيكية. يمكن أن تظهر اختلافات تُعزى إلى الجينات في بيئة وأن تغيب عن أخرى تماما، فعلى الرغم من وجود اختلاف بيولوجي في بنية أجسام مجموعة عشوائية من الرجال وفي معدّل قوّتهم بالمقارنة مع مجموعة عشوائية من النساء (وذلك الاختلاف -بالمناسبة- أقل مما يُظن عادة)، لا يصبح لذلك الاختلاف أي أهمية ويختفي من وجهة النظر العملية في عالم الرافعات الإلكترونية والطاقة الموجّهة وأذرع التحكم الإلكترونية. ولذلك فمقدار الاختلاف بين عموم الناس نتيجة لاختلاف جيناتهم ليس صفة ثابتة، لكنها صفة تتفاوت من بيئة لبيئة. ولذلك فمقدار الاختلافات التي سببها الاختلاف الجيني يعتمد (وياللهول) على البيئة.
وفي المقابل فمقدار الاختلاف بيننا الذي هو نتيجة لتفاوت البيئة على امتداد تاريخ حياتنا يعتمد على جيناتنا. نعرف مثلا من التجارب أن بعض الكائنات الحيّة التي لها جينات معيّنة تكون حساسّة للغاية لبعض الاختلافات البيئيّة، بينما لا يكون أفراد آخرون لهم جينات مختلفة حسّاسون لتلك الاختلافات. التفاوت البيئي والتفاوت الجيني ليسا مسارين سببيين منفصلين. تؤثر الجينات على مقدار حساسية الفرد للبيئة، وتؤثر البيئة على مقدار أهمية الاختلافات الجينيّة للفرد. لا يمكن إذابة التفاعل بينهما، ويمكن أن نفصل بين الآثار الجينيّة والبيئيّة في عينة محددة من الكائنات الحيّة وفي لحظة محددة وفي بيئات محددة، لكن عندما تتغيّر البيئة، فكل الرهانات تتبّدد.
ليس التباين بين الجينات والبيئة وبين الفطرة والتنشئة تباينًا بين ما هو ثابت وما هو متبدّل، فمن مغالطات الحتميّة البيولوجيّة أن قالت أن الاختلافات إن كانت في الجينات فلن تزول. يمكن إثبات أن هذا خطأ، بمجرّد النظر إلى الأدلة الطبية وحدها. ثمة أمراض في التمثيل الغذائي يُقال أنها تنشأ منذ الولادة حين يتسبب جين معطوب عادة) بتعطّل وظائف الأعضاء. من أمثلة ذلك مرض ولسون Wilson disease وهو خلل جيني يمنع من يعانون منه من إزالة سموم النحاس الذي نتغذى عليه جميعا بكميات ضئيلة في طعامنا المعتاد. يتراكم النحاس في الجسم ليسبّب في نهاية المطاف تنكّس الأعصاب ثم الوفاة في سن المراهقة أو في بدايات سن البلوغ. لا يوجد مثال أفضل من هذا على خلل جيني، لكن ورغم ذلك فمن عندهم هذا الجين المعطوب يمكن أن يعيشوا حياة طبيعيّة تمامًا وأن يكون نموهم طبيعيًا إذا ما أخذوا دواءً يساعدهم على التخلص من النحاس، ولا يمكن حينها التفريق بينهم وبين غيرهم.
يُقال أحيانا أن تغيّر ظروف الأداء مثل اختراع الأرقام العربية أو الآلة الحاسبة أو توفّر عقار ما ليس هو الموضوع لأن ما يعنينا هي القدرة المجرّدة دون أي مساعدة، إذ ثمة أشخاص قادرون على تذكّر أرقام متسلسلة كثيرة وثمة أشخاص قادرون على جمع وضرب أرقام كبيرة في أذهانهم. إذا كانت هذه حجّتهم، فلماذا نجري اختبارات الذكاء بطريقة كتابية تُيسّر على الناس استخدام الورقة والقلم لإجراء الحسابات وتجعلهم يتفوقون على من يمكنهم الحساب في أذهانهم "دون مساعدة"؟ لماذا نسمح لمن يختبرون اختبارات الذكاء أن يلبسوا النظارات الطبيّة، إذا كان ما يهمنا القدرات "المجرّدة" غير المُعدّلة ثقافيا؟ السبب أننا غير معنيين بالمهام التي تقيس قدرات اعتباطية، بل يعنينا الاختلاف في إمكانيّة القيام بالمهام الاجتماعيّة ذات العلاقة ببنية حياتنا الاجتماعيّة الحقيقيّة.
وبعيدًا عن التحدّيات في مفهوميّ البيئة والجينات إذا ما حاولنا فصل آثارهما، ثمة صعوبات تجريبية كبرى في اكتشاف أثر الجينات خصوصا عندما نتعامل مع البشر. كيف لنا أن نحدّد أثر الجينات على صفة ما؟ نسلك الطريقة ذاتها مع كل الكائنات: إذ نقارن بين أفراد مختلفين في مدى القرابة، وإذا ما وجدنا أن الأفراد الأقرب أكثر شبهًا فيما بينهم ممن هم أبعد، نعزو ذلك إلى أثر الجينات. لكن هنا تحديدا تظهر مشكلة علم الجينات البشريّة، فبعكس الحيوانات التجريبية، لا يشترك الأقارب في الجينات فحسب بل أيضا في البيئة بحكم البُنية العائلية والطبقية للمجتمعات البشريّة. إذا ما لاحظنا أن الأطفال يشبهون والديهم في صفة ما فلا يمكن التفريق بين التشابه الذي كان من تشابهٍ جيني، والتشابه الذي كان من تشابه بيئي. تشابه الوالدين والأطفال هو الظاهرة التي ينبغي تفسيرها، وهي ليست دليلا على الجينات. على سبيل المثال ثمة صفتان اجتماعيتان لهما تشابه كبير بين الوالدين وأبنائهم في أمريكا الشمالية وهي الطائفة الدينية والحزب السياسي. إن أشدّ المؤيدين للحتميّة البيولوجيّة مع ذلك لا يدّعون وجود جين للانتماء للكنيسة الإسقيفية ولا للتصويت للائتمان الاجتماعي[4] Social Credit.
الإشكال هو في التفريق بين التشابه الجيني والتشابه البيئي. لهذا السبب ثمة تأكيد كبير على دراسة التوائم في علم الجينات البشريّة. فكرة تلك الدراسات أن التوائم إن كانوا أكثر تشابهًا من بقية إخوتهم وأخواتهم أو إن عاشوا في أسر منفصلة تمامًا وظلوا متشابهين، فهذا بالتأكيد دليل على الجينات. ثمة هوس كبير بدراسة التوائم الذين عاشوا منفصلين. إذا كانت التوائم المتطابقة (التي تشترك في كل الجينات) متشابهة حتى لو نشأت في بيئات منفصلة، فيتحتّم أن تكون صفاتهم واقعة تحت تأثير جينيّ قويّ. الكثير من دعاوى توارث الذكاء مثلا أتت من دراسات على توائم متطابقة عاشت بشكل منفصل.
ثمة ثلاثة دراسات منشورة فقط بهذا الصدد. أولها وأكبرها نشرها السير سيريل بيرت Sir Cyril Burt. كانت هذه هي الدراسة الوحيدة التي ادّعت ألا تشابه في ظروف العوائل التي نشأ فيها التوائم المنفصلة. ادّعت أيضا أن 80% من أداء اختبارات الذكاء موروث. بعد تفحّص دقيق أجراه أولفر غلي Oliver Gillie من صحيفة التايمز اللندنية والبروفسور ليون كامن Leon Kamin من جامعة برنستون اكتشفا أن بيرت اختلق الأرقام واختلق التوائم واختلق المتعاونين والمتعاونات الذين ظهرت أسماؤهم في البحث الذي نشره، ولذا فلسنا بحاجة للتعاطي مع دعواه هذه. تمثّل تلك الدعاوي إحدى أضخم الفضائح في تاريخ علم النفس وعلم الأحياء الحديثين.
عندما نتأمل الدراسات الأخرى التي تعطي تفاصيلًا عن عائلات التوائم المنفصلة ندرك أننا نعيش في عالم حقيقي وليس في مسرحية من مسرحيات جلبرت وسوليفان Gilbert and Sullivan. قد يكون سبب انفصال التوائم عند الولادة أن أمهما توفيّت أثناء الوضع، فينشأ أحدهما عند الخالة والآخر عند إحدى الصديقات المقرّبات أو عند الجدّة. أحيانا لا يتيسّر للوالدين أن يتحملا تكاليف الطفلين، فيتكفّل برعاية أحدهما أحد الأقارب أو إحدى القريبات. الحقيقة أن التوأمين لن يكونا منفصلين أبدا، وسيعيشان في ذات العائلة الكبيرة، وسيذهبان لذات المدرسة، وسيلعبان سويا. الدراسات الأخرى التي تناولت التبنّي لدراسة الذكاء البشري والتي قيل أنها أظهرت أثر الجينات لها تحدّياتها التجريبيّة الفريدة، كتحدّي المطابقة بين الأطفال بحسب أعمارهم، وضآلة العينات، والانحياز في اختيار الخاضعين والخاضعات للدراسة. ثمة جهود كبيرة يبذلها والدو ووالدات التوائم لجعلهم متشابهين لأقصى حدّ: يُسمّون بأسماء تبدأ بنفس الحرف، ويلبسون ذات الملابس. ثمة مسابقات عالمية تمنح جوائز لأكثر التوائم تشابهًا. إحدى الدراسات التي أجريت على التوائم أعلنت في الصحف عن رحلة مجانية إلى شيكاغو للتوائم المتطابقة، وهي بذلك جذبت أكثر التوائم تشابهًا، نتيجةً لتلك التحيّزات، لا يوجد حاليا مقياس دقيق لأثر الجينات على الاختلاف في سلوك البشر.
إحدى أقوى الأسلحة البيولوجيّة الأيديولوجية لإقناع الناس أن مكانهم في المجتمع ثابت ولا يمكن أن يتبدّل (أي بالتأكيد: عادل) هو الخلط المستمر بين ما هو موروث من جهة، وما لا يمكن أن يتبدّل من جهة أخرى. يبدو هذا الخلط في أجلى تجلياته في دراسات التبنّي التي يُراد لها أن تقيس التشابه البيولوجي. تُجرى دراسات التبنّي هذه كما تجرى دراسات التوائم المتطابقة للتمييز بين التشابه الناتج عن التشابه الجيني والتشابه الناتج عن التشابه العائلي. إذا ما شابه الأطفال والديهم البيولوجيين أكثر من والديهم بالتبنّي، يخلص علماء الجينات إلى نتيجة صحيحة وهي أن هذا دليل على أثر الجينات. إذا ما نظرنا إلى دراسات التبنّي لنفهم أثر الجينات على الذكاء، فثمة نتيجتان مطردتان.
النتيجة الأولى أن الأطفال المُتبَنّين يشبهون والديهم البيولوجيين من حيث أن ارتفاع درجة اختبار الذكاء لدى الوالدين البيولوجيين يرافقه ارتفاع لدرجة اختبار الذكاء لدى الطفل المُتبنّى، وبذلك فللوالدين البيولوجيين أثر على ذكاء أطفالهم حتى لو وقع التبنّي في مراحل مبكرة. وإذا ما غضضنا الطرف عن أثر التغذية في مرحلة الحمل وأثر المحفّزات في المراحل المبكرة جدا من الحياة، فمن المعقول القول أن للجينات بعض الأثر على درجة اختبار الذكاء، ويكون السؤال حينها: ما مصدر أثر الجينات؟ ثمة مثلا نقاط للسرعة في اختبار الذكاء، وقد يكون للجينات أثر على سرعة التفاعل أو على سرعة العمليات العصبية المركزية بعمومها.
النتيجة الثانية لدراسات التبنّي أن درجات اختبار الذكاء للأطفال تكون عادة أعلى بـ20 نقطة من درجة والديهم البيولوجيين. صحيح أن درجات الأطفال تكون أعلى إذا ما كانت درجات والديهم أعلى، لكن الأطفال بعمومهم (حين ننظر لهم كمجموعة) أعلى من والديهم البيولوجيين، بل إن معدّل درجات اختبار الذكاء للأطفال تساوي معدّل درجات اختبار الذكاء للوالدين بالتبنّي والذين تكون درجاتهم دائما أعلى من الوالدين البيولوجيين. من المهم هنا التمييز بين الارتباط والتطابق correlation and identity. يكون المتغيّران "مرتبطان" إيجابيا إذا ما كان ارتفاع قيمة أحدهما يقابله ارتفاع لقيمة الآخر. يكون الارتباط تامًا بين الأرقام 100 و 101 و 102 و 103 من جهة، وبين 120 و 121 و 122 و 123 من جهة أخرى لأن كل زيادة في أحد المتغيرين ترافقها زيادة تامّة للآخر، لكن من الجلي أن الأرقام ليست "متطابقة"، وأن معدّل الفرق بينهما 20، وبذلك فقد تكون درجات اختبار ذكاء الوالدين قادرة على التنبؤ بدرجات اختبار ذكاء الأطفال بمعنى أن ارتفاع درجات الوالدين يقابلها ارتفاع درجات الأطفال، لكن معدّل ذكاء الأطفال قد يكون أعلى بكثير. بالنسبة لعلماء وعالمات الجينات، الارتباط هو الذي يحدّد أثر الجينات، لكن لا يمكن للوراثة أن تتنبأ بالتغيير في معدّل المجموعة من جيل إلى آخر. هنا تكشف لنا دراسات التبنّي معنى اختبارات الذكاء والواقع الاجتماعي للتبنّي.
دعونا أولا ننظر: ما الذي تقيسه اختبارات الذكاء أصلا؟ تلك الاختبارات تتكون من مجموعة من الأسئلة العدديّة، واللفظية، والتعليميّة، والربطية. من الأسئلة مثلا: "من هو ولنكز ماكوبر؟" و"ما معنى صملاخية؟" و"ماذا على الفتاة أن تفعل إن ضربها صبي؟" (ليس الجواب الصحيح أن تردّ ضربته بضربة!) كيف نعرف أن من أداؤه جيد في مثل هذا الاختبار ذكي؟ الحقيقة أن الاختبار صُمّم ابتداءً لينتقي من اعتبرهم الأساتذة أذكياء، أي أن اختبارات الذكاء وسيلة لإعطاء غطاء موضوعي و"علمي" على التحيزات الاجتماعيّة للمؤسسة التعليميّة.
ثم علينا التنويه أن من يقرّر أن يهب أطفاله للتبنّي المبكر هم أفراد الطبقة العاملة أو العاطلين والعاطلات الذين لا يتشاركون تعليم الطبقة المتوسّطة ولا ثقافتها، بينما ينتمي الذي يُقدمون على التبنّي إلى الطبقة المتوسّطة وعادة ما يكون تعليمهم وتجربتهم الثقافية ملائمة لمحتوى اختبارات الذكاء وغايتها، وبذلك يكون أداء الوالدين المُقدمين على التبنّي بمجموعهم أعلى في اختبارات الذكاء ممن اختاروا التبنّي لأطفالهم. يكون للبيئة التعليميّة والعائلية التي ينشأ فيها الأطفال لاحقا أثرها المتوقّع في رفع درجاتهم في اختبارات الذكاء رغم وجود دليل على بعض الآثار الجينيّة من الوالدين البيولوجيين.
تُبيّن نتائج دراسات التبنّي ببراعة لماذا نعجز عن تحديد مقدار التغيّر بالإجابة على سؤال آخر مختلف وهو: هل ثمة جينات تؤثر على هذه الصفة؟ لو أردنا أن نتناول بجديّة السؤال الذي طرحه آرثر جنسن Arthur Jensen في مقالته الشهيرة: "ما مقدار الزيادة التي يمكن تحقيقها في الذكاء والأداء المدرسي؟" فلن نستطيع الإجابة على هذا السؤال إلا بمحاولة رفع الذكاء والأداء المدرسي، وليس بأن نسأل (كما سأل جنسن): "هل من أثر للجينات على الذكاء؟" فكون الأمر جينيًا لا يعني أنه لا يمكن أن يتبدّل.
لا يدّعي مؤيدو ومؤيدات الحتميّة البيولوجيّة وجود اختلافات في إمكانيّات الأفراد فحسب، بل أن تلك الاختلافات الفردية تفسّر الاختلافات العرقيّة في السلطة الاجتماعيّة وفي النجاح. يصعب علينا أن نعرف كيف تسنّى لهم أن يستدلوا على الاختلافات بين السود والبيض دون أن يخلطوا بشدّة بين التفاوت الجيني والبيئي. فعلى سبيل المثال التبنّي الذي يتخطّى الأعراق ليس منتشرًا، ولا سيما تبنّي السود للأطفال البيض. لكن ثمة أدلة تطرأ بين فترة وأخرى.
أجريت دراسة في منازل د. برناردو Dr. Bernardo’s homes (وهي دور أيتام في بريطانيا تستلم الأيتام بمجرّد ولادتهم) تركّزت على اختبار الذكاء للأطفال من أحفاد السود والبيض. أجريت عدة اختبارات في أعمار مختلفة، ووُجدت اختلافات ضئيلة في أداء اختبارات الذكاء بين هاتين المجموعتين، بيد أن تلك الاختلافات ليست ذات دلالة إحصائية. إذا ما سكتنا هنا فسيظنّ القراء والقارئات أن تلك الاختلافات الضئيلة أظهرت أن البيض أفضل من السود، لكن الحقيقة عكس ذلك. لم يكن الاختلاف ذا دلالة إحصائية، لكن الاختلافات حيثما وُجِدت كانت لصالح السود. لا يوجد مثقال ذرة من دليل أن الاختلافات في المكانة والثروة والسلطة بين الأعراق في أمريكا الشمالية له أي أساس جيني إلا، بالطّبعِ، ما يترتب على جينات لون الجلد من آثار اجتماعيّة. الحقيقة أن الاختلافات الجينيّة أقل بكثير مما نظن إذا ما اقتصرنا على الدلالات السطحية التي نستخدمها للتفريق بين الأعراق. لا شك أن لون الجلد ونوع الشعر وشكل الأنف تتأثر بالجينات، لكننا لا نعرف كم عدد هذه الجينات وكيف تعمل. في ذات الوقت إن نظرنا إلى الجينات التي نعرفها كالتي تؤثر على نوع الدم مثلا أو الجينات المسؤولة عن جزيئات الأنزيمات الأساسيّة لوظائف أعضائنا، نجد أنه ورغم التفاوت الكبير الذي يحصل من فرد إلى آخر إلا أن الاختلافات بين المجموعات البشريّة أقل بكثير. الحقيقة أن حوالي 85% من التفاوت البشري الجيني المُوثّق يحدث بين الأفراد من نفس العرق، و8% من التفاوت يقع بين المجموعات الإثنية داخل العرق الواحد (كالتفاوت بين الإسبان، والأيرلنديين، والإيطاليين والبريطانيين) و7% فقط من إجمالي التفاوت البشري الجيني هو معدّل ما يُعثر عليه من تفاوت بين الأعراق البشريّة الكبرى مثل أعراق أفريقيا وآسيا وأوروبا وأوقيانوسيا.[5]
لذلك، لا سبب يدعو أن نظنّ بوجود اختلافات جينيّة بين المجموعات العرقيّة في الخصال كالسلوك والطبع والذكاء. علاوة على ذلك لا يوجد مثقال ذرّة من دليل على وجود اختلاف جيني بين الطبقات الاجتماعيّة بأي شكل إلا إذا كان الأصل الإثني أو العرقي سببا في التمييز الاقتصادي. الهراء الذي يروّج له المؤدلجون والمؤدلجات المنتمون للحتميّة البيولوجيّة عندما يدّعون أن الطبقات الدنيا أدنى بيولوجيًا من الطبقات العليا، وأن كل ما هو حسن في الثقافة الأوروبية منبعه جماعات الشمال كل ذلك لا يزيد عن كونه هراءً يُراد له أن يشرعن التفاوت في مجتمعنا بوضع غطاء بيولوجي عليه وبالخلط المستمر بين ما قد يكون متأثرًا بالجينات وما قد يمكن تبديله بتغييرات اجتماعيةً وبيئيّة.
على مر السنوات لطالما كان أقوى سلاح يستخدمه المؤدلجون والمؤدلجات بيولوجيًا لشرعنة تفاوت المجتمع خطأ فاحش وهو الخلط بين ما هو موروث وما هو ثابت. كان الأجدر بهؤلاء كونهم علماء أحياء ألا يقعوا في هذا الخطأ، لكن حريّ بنا (إذ أنهم مستفيدون من هذا النظام القائم على التفاوت) ألا نعتبرهم خبراء موضوعيين.