الادعاء القائل بأن كل الوجود الإنساني تتحكم به أحماضنا النووية DNA ادعاء منتشر ورائج، ويكمن أثره في شرعنة بنية المجتمع الذي نعيش فيه، لأنه لا يتوقف فقط على توكيد أن الاختلافات بيننا في الطباع، والقدرات، والصحة العقلية والجسدية مكتوبة في جيناتنا فحسب. بل يدعي كذلك أن البنية السياسيّة للمجتمع -- ذلك المجتمع التنافسي، الريادي، الهرمي الذي نعيش فيه، والذي يفرّق في مكافأته لمختلف الطباع، والقدرات الإدراكية، والخصال العقلية -- هو أيضا مُحدّد بأحماضنا النووية وجيناتنا; وهو بالتالي، ولهذا السبب، لا يتبدّل. رغم ذلك كله، فحتى لو كنّا مختلفين بيولوجيًّا عن بعضنا البعض، فهذا بذاته لا يستلزم أن يمنح المجتمع سلطة متفاوتة ومكانة مختلفة لمن هم مختلفون. ومن هنا فلكي تكتمل منهجية الحتميّة البيولوجيّة، فلابد أن توجد نظريّة لفطرة إنسانٍ لا تتبدل، فطرة مكتوبة في جيناتنا.
لابدّ لكل فلسفة سياسيّة أن تنطلق من نظريّة عن فطرة الإنسان. إن لم نستطع أن نميّز ما هو إنسانيُّ حقّ عما سواه، فلن نستطيع بالتأكيد أن ندافع عن أسلوب معيّن للتنظيم الاجتماعي. لابد للثورات الاجتماعيّة، تحديدًا، أن تتبنّى تصوّرا عن ما هو الإنساني حقًا، لأن الدعوة لثورة، دعوة لإراقة الدماء، ولإعادة تنظيم العالم بأسره. لا يمكن للمرء أن يدعو للإطاحة بالوضع الراهن بالعنف، دون أن يدّعي أن ما سيحدث بعد ذلك سيكون أكثر اتفاقا مع فطرة الإنسان الحقّة. وعليه، فحتى كارل ماركس - من كانت نظرته للمجتمع نظرة تاريخية، آمن أن هنالك فطرة حقّة للإنسان وأن البشر يحققون ذواتهم بالتلاعب المخطط له بالطبيعة لأجل رفاهية الإنسان.
لطالما كان الإشكال الذي شغل الفلاسفة السياسيين تبريرهم لنظرتهم لفطرة الإنسان. قبل القرن السابع عشر، كانت فكرة الحكمة الإلهية هي السائدة، وهي أن الإله خلق البشر على هيئة محددة وهي صورته (رغم أن صورته كانت مبهمة). علاوة على ذلك، كان البشر آثمين منذ خطيئة آدم وحواء. لكن لم يكن ممكناً للمجتمع العلماني التقني الحديث أن يبني ادعاءاته السياسيّة مستخدماً هذا التبرير. فقد حاول الفلاسفة السياسيون منذ القرن السابع عشر وما بعده رسم صورةٍ لفطرة الإنسان تقوم على نظرة ماديّة للعالم. أشاد الفيلسوف السياسي توماس هوبز[1] Thomas Hobbes في كتابه اللفياثان Leviathan على ضرورة الملَكِيّة، حيث شيّد تصورًا لفطرة الإنسان انطلاقا من أبسط البديهيات وهي اعتبار البشر كائنات حيّة. فهو يعتبر أن الجنس البشري (كبقيّة الحيوانات) يكبر بذاته ويتوسع بذاته وأن من طبيعة هذه الكائنات أن تنمو لتحتل العالم. لكن موارد الطبيعيّة في هذا العالم محدودة، فما سيحدث بالضرورة أن الجنس البشري كلما اتسع في الأرض سيجد نفسه في صراعٍ على هذه الموارد، وستكون النّتيجة ما سمّاه هوبز "بحرب الكل ضد الكل" إن خلاصة ذلك بالنسبة له، أن علينا أن نحافظ على الملَكِيّة حتى نمنع هذه الحرب من تدمير كل شيء.
إن الادعائين (بأن الكائنات الحيّة -وتحديدًا البشر- تنمو دون قيود، وأن عالمها محدود ومُقيّد) هما اللذان بُنيَت عليهما النظريّة البيولوجيّة الحديثة لفطرة الإنسان. ظهرت هذه الادعاءات في مقالة القس توماس مالتوس[2] Thomas Malthus حول التكاثر السكاني، في قانونه الشهير الذي يقول أن السكان يتكاثرون وفق متوالية هندسية، بينما تتكاثر الموارد الطبيعيّة وفق متوالية حسابية، وبالتالي، فإن صراع البقاء سيحدث حتمًا. كما نعرف جميعاً، استعار داروين مفهوم مالتوس عن الطبيعة ليُشيّد نظريته حول الانتخاب الطبيعي Natural selection. بما أن جميع الكائنات الحيّة تشترك في هذا الصراع من أجل البقاء، فإن الكائنات الأكثر ملائمةً في هيئتها وتكوينها ووظائف أعضائها وسلوكياتها، ستكون أكثر حظاً في إنتاج ذريّة تلائم صعوبات هذا الصراع، وبالتالي سينتشر نوعها في الأرض. إن النظريّة الداروينيّة تقول أن فطرة الإنسان، أيا تكن، تطوّرت -ككل صفات البشر- بالانتخاب الطبيعي. وعليه، فما نحن عليه اليوم هو في الواقع نتاج ملياريّ عاماً من التطوّر، منذ ظهور الكائنات الحيّة البدائيّة، وصولاً لنا.
مع تقدم النظريّة التطوّريّة خلال المئة عامٍ الماضية لتصبح أكثر تعقيدًا على المستوى العلمي والتقني، تطوّرت معها الأفكار الغامضة حول الوراثة، وتحولت إلى نظريّة دقيقة للغاية عن بنية الحمض النووي DNA ووظيفته.[3] إذا، فالنظريّة التطوّريّة لفطرة الإنسان طوّرت أداةً حديثة ذات وقعٍ علمي يجعلها جديرةً بالثقة دون مساءلة، كمثل النظريات الإلهية التي سبقتها في العصور الأولى. الأثر الذي حدث هو أن حرب توماس هوب حيث الكل ضد الكل، قد تحوّلت إلى صراع جزيئات الحمض النووي للسيادة والهيمنة على كل أشكال الحياة البشريّة.
علم الأحياء الاجتماعيّة Sociobiology هو النموذج الأحدث لفطرة الإنسان بالنسبة لأيديولوجيا المذهب الطبيعي Naturalism. ظهر هذا النموذج في المشهد منذ حوالي 15 عامًا، ومنذ ذلك الحين أصبح النظريّة الأساسيّة لتبرير ديمومة المجتمع بالشكل الذي نعرفه اليوم. إنها (أي: علم الأحياء الاجتماعيّة) نظريّة تطوّريّة وجينيّة، تستخدم الأدوات التنظيرية لعلم الأحياء التطوّري الحديث، وتشمل قدرًا كبيرًا من العمليات الرياضيات المبهمة، التي تترجم بعد ذلك للقراء والقارئات غير الخبراء في الكتبِ الأنيقة ذات الصور المسلية وفي مقالات المجلات وتقارير الصحف. إن علم الأحياء الاجتماعيّة هو آخر المحاولات وأكثرها إرباكًا، لإقناع العامّة أن الحياة البشريّة (بشكلها الحالي) هي إلى حد كبير كما عليها أن تكون، بل ربما ما ينبغي أن تكون.
بنيت نظريّة علم الأحياء الاجتماعيّة لفطرة الإنسان على ثلاث مراحل. المرحلة الأولى تصف ماهية فطرة الإنسان. وفيها ينظر المرء للبشر من حوله ليحاول بناء وصفٍ منصف تام للصفات التي يُقال أنها مشتركة بين جميع البشر في كل المجتمعات وفي كل مكان وزمان.
المرحلة الثانية هي ادعاء أن هذه الصفات التي تبدو مشتركة بين البشر هي في الحقيقة مكتوبة في جيناتنا، أي في أحماضنا النووية DNA. هناك جينات للتدين، وجينات للريادة، وجينات لأي صفة متجذّرة في النفس البشريّة والتنظيم الاجتماعي البشري.
مثّل هذان الادعاءان (وهما: وجود فطرة مشتركة للإنسان، وأن هذه الفطرة مكتوبة في جيناتنا ولا يمكن أن تتبدل) ما يكفي لتشييد نظريّة بيولوجيّة لفطرة الإنسان بالمعنى الوصفي البحت. "هذا ما نحن عليه، أردنا ذلك أم لم نرده." لكن علم الأحياء الاجتماعيّة كونه مبنيًّا على نظريّة تطوّريّة، مطالبٌ أن يُكمل منهجه وذلك بأن يفسّر ويبرّر، بشكلٍ معقول، كيف حصلنا على هذه الجينات بالتحديد، بدلاً من جينات أخرى كان من الممكن أن تمدنا بفطرة بشريّة مختلفة تمامًا. وبهذا تتقدم النظريّة للمرحلة الثالثة.
تقول المرحلة الثالثة أن الانتخاب الطبيعي (من خلال تفاوت نجاة الكائنات وتفاوت تكاثرها) قد أدّى حتمًا إلى صفات جينيّة مميزة للفرد من بني البشر، وأن تلك الصفات هي المسؤولة عن شكل المجتمع. هذا يزيد من قوّة الحجة وشرعيتها، لأنه يذهب لأبعد من مجرّد الوصف، حيث يؤكّد أن الطبيعة البشريّة التي وصفها أمرٌ لا مفر منه وذلك بالنظر إلى القانون المشترك للصراع من أجل البقاء ونجاة الأصلح. من هذا المنطلق، تغطّي نظريّة علم الأحياء الاجتماعيّة كافة أوجه الفطرة البشريّة، لتثبت أنها مشتركة بين الجميع، وذات ثبات مطلق. فبعد كل هذا، إن كانت 3 بلايين عامًا من التطوّر قد شكّلت ما نحن عليه اليوم، هل نعتقد فعلًا أن مئة يوم من الثورة ستغيّرنا؟
قام علماء الأحياء الاجتماعيّة بالمرحلة الأولى، وهي ادعاء الوصف الصحيح لفطرة الإنسان المشتركة كما ادعى كل منظّرٍ من قبلهم، وذلك بالنظر من حولهم ورؤية ما يبدو عليه الناس في مجتمعهم، فكانوا إلى حد ما يروون قصّة حياتهم. أي أنهم (بالنظر لذواتهم وللعالم الخارجي للمجتمع الرأسمالي الحديث) بحثوا عن وصف لفطرة الإنسان. ثم قاموا بالتوسّع قليلاً عبر النظر إلى السجل الأنثروبولوجي من أجل أن يؤكدون لنا أن ذات العناصر التي وجدوها في البشر إبان القرن الواحد والعشرين في أمريكا الشمالية وبريطانيا موجودةٌ بشكل أو بآخر لدى سكان جزيرة غينيا الجديدة أيام العصر الحجري. لسببٍ ما، لم يقوموا بإمعان النظر في السجل التاريخي للمجتمع الأوروبي، والذي يبدو أنهم يجهلونه بشدّة، إذ ربما شعروا أنه إن أظهرت مرتفعات غينيا الجديدة ومرتفعات أسكتلندا ذات الخصائص والصفات الموجودة اليوم، فإنها، بالتالي، لا يمكن أن تختلف عن ما روي في 1500 عام من التاريخ المُدوّن.
ثم ما هي تلك الصفات المشتركة للبشر التي وجدها علماء الأحياء الاجتماعيّة؟ إن أفضل ما يمكن للمرء فعله هنا هو أن ينظر لأشدّ الوثائق تأثيرًا والتي تعد مُؤَسِّسةً لنظريّة الأحياء الاجتماعيّة، وهو كتاب إدوارد ويلسون Edward Wilson (علم الأحياء الاجتماعيّة - التوليفة الجديدة). حيث يخبرنا البروفيسور ويلسون على سبيل المثال، أن البشر كائنات قابلة للتلقين، إذ يقول: "إن عملية تلقين البشر سهلة بشكل سخيف، فالتلقين ما يسعون له". يذكر كذلك أن البشر يتميّزون بأنهم ذوو اعتقادات عمياء، ويقول "يفضّل الإنسان أن يعتقد على أن يعرف". يجب علينا أن نلاحظ أن هذا التصريح موجود في ما يُسمى "عملا عمليا" يستخدم كمرجع في المقررات التعليميّة في شتى أرجاء العالم، وهو مملوءُ بالحسابات الرياضية لعلم الأحياء السكاني Population Biology الحديث، ومحشوٌّ بالملاحظات والحقائق عن سلوك مختلف أنواع الحيوانات، وهو مبني على ما سمّته مجلة التايم Time Magazine "قوانين الطبيعة الحديديّة". إن جملة "يفضّل الإنسان أن يعتقد على أن يعرف" تتماشى أكثر مع حكم الحانات، إنها أشبه ما تكون بلفتة يعطيها المرء لصديقه في الحانة بعد انتهاء يوم عصيب حاول فيه إقناع شخص في المكتب المجاور بأن عليه أن يقوم بعمله بطريقة مختلفة. يذكر ويلسون كذلك جانبًا آخرًا لفطرة الإنسان تتعلق بكراهية الغير والتعصب للعائلة والأصل، فيقول لنا: "يدرك البشر تماماً تاريخ سلالتهم، وهم فطنون تجاه المؤامرات الكيدية"، ويعدّ ويلسون الخوف من الغرباء (زينوفوبيا Xenophobia) من صفاتنا المشتركة. إذ يذكر أن "جزء من مشكلة الإنسان أن ردة فعله تجاه الجماعات الأخرى لا زالت بدائية وغير كافية لتوسيع العلاقات على نطاق إقليمي أوسع، وهو ما فرضته الحضارة عليه". يُقال أن أحد نتائج هذا، أن "الصفات البشريّة الأكثر تميّزًا، قد ظهرت خلال مرحلة التطوّر الاجتماعي، التي حدثت إبان فترة الحرب بين القبائل والإبادة الجماعية". يليها العلاقة بين الجنسين. إن هيمنة الذكور وفوّقيّتهم جزء من فطرة الإنسان، يقول ويلسون: "تعد أنظمة الهيمنة العدوانية التي تعلو فيها سلطة الذكور على الإناث إحدى الصفات الاجتماعيّة العامة عند البشر". لا تنتهي قائمة الصفات عند هذا الحد، ولا هي مجرّد رأي تفرّد به عالم مؤثر واحد، بل إننا نجد بشكل متكرر ادعاءات عدة أن مما يشترك فيه كل البشر: الحروب، والهيمنة الجنسية، وحب التملّك، وكراهية الغرباء. نجد هذه الادعاءات في كتابات علماء الأحياء الاجتماعيّة، سواءً كانوا علماء أحياء، أو اقتصاديين، أو علماء نفس، أو علماءً سياسيين.
على المرء أن يكون أعمى تماماً عن تاريخ المجتمع الأوروبي، ليقول مثل هذه الادعاءات. لنأخذ على سبيل المثال الرأي القائل بأن كراهية الغرباء أو الخوف منهم صفة مشتركة. الحقيقة أن مواقف البشر من الثقافات الأجنبية تتباين بشكل كبير من طبقة اجتماعيّة لأخرى ومن وقت لآخر. هل يمكن وصف الطبقة الأرستقراطية في روسيا إبان القرن التاسع عشر بأنها كارهة للأجانب على الرغم من أنها ترى أن كل ما هو سلافي[4] أقل شأناً وأدنى منزلة، وتفضّل الحديث بالفرنسية، وتنظر لألمانيًا كمصدرٍ عسكري وتقني؟ كانت نظرة الطبقات العليا والمتعلمة خاصةً في كثير من الأحيان نحو الثقافات المختلفة نظرة بحث عن أفضل وأنبل ما فيها. لطالما أستضيف العلماء المتحدثون باللغة الإنجليزية في قنوات الراديو والتلفاز الإيطالية لتترجم الإجابات التي يقدّمونها خلال اللقاء بالإنجليزية للإيطالية ليتمكن المستمعون والمستمعات من سماعها كصوت مدبلج ينطلق بعد لحظات من بدء إجابة العالم الإنجليزي. عندما سئل المعدون عن سبب عدم استضافة علماء إيطاليين، كانت الإجابة أن الإيطاليين أصلا لا يصدقون أي رأي علمي يُقال لهم بالإيطالية، وأن عليهم أن يسمعوه بالإنجليزية حتى يصدقوا أن ما يُقال لهم صحيح.
لا شيء يُظهر النظرة اللاتاريخية الضيّقة لهذه الادعاءات كما يظهره التعاطي المعتاد مع اقتصاد الندرة وعدم تساوي التوزيع. يكتب البروفيسور ويلسون في هذا فيقول: "يتعاون أفراد المجتمعات البشريّة بطريقة عشائرية لكنهم غالبًا ما يتنافسون على الموارد المحدودة حولهم. يحصل الأفضل والأكثر ريادةً على حصة غير متكافئة وأكثر من الغير بينما ينتهي الحال بالأقل نجاحًا إلى مكانة غير مرغوبة". يتجاهل هذا الوصف تقاسم الموارد الهائل الذي يحدث في مجتمعات الصيد الحديثة كالإسكيمو، لا بل ويشوّه التاريخ الأوروبي بالكامل. لم يكن مفهوم الريادة موجودًا على سبيل المثال في القرن الثالث عشر في المجتمع الزراعي في إيل دو فرانس Île-de-France، التي كانت مجتمعا إقطاعيا لم يكن ممكنا فيه شراء الأراضي ولا بيعها، ولا تعيين العمال ولا فصلهم، وحيث كانت "آلية السوق" مجرّد نموذجٍ بدائي يقتصر على تبادل القليل من المنافع. يفهم علماء الأحياء الاجتماعيّة أن هنالك استثناءات لتعميماتهم، لكن ادعائهم يقول أن تلك الاستثناءات مؤقتة وغير طبيعيّة، وأنها لن تستمر إلا قهرًا. وعليه، فيمكن للمجتمعات بالفعل أن تتعاون بأسلوبٍ يشبه ما يسمى "أسلوب الصينيين الصارمين". أي أن التعاون لن يحدث إلا بالإشراف المستمر وبالقوة، وفي اللحظة التي يسترخي فيها المراقب، سيعود الناس لطبيعتهم. هذا يشبه ما إذا صنعنا قانونًا ينصّ أن على الجميع المشي على ركبهم، سيكون هذا ممكنًا جسديا لكنه مؤلم للغاية. وفي اللحظة التي سيخرج فيها المراقب، سيعود الجميع للمشي على أقدامهم.
يظهر على سطح نظريّة فطرة الإنسان هذه الالتزام الأيديولوجي الواضح تجاه النظام التنافسي الحديث وتجاه المجتمع الهرمي. توجد كذلك أيديولوجيا أعمق، وهي أولوية الفرد على حساب الكل، فعلى الرغم مما يوحيه اسم "الأحياء الاجتماعيّة"، نجد أننا لا نتعامل مع نظريّة السببيّة الاجتماعيّة، بل مع نظريّة السببيّة الفردية - أو الفرد المسبب. إذ يُنظر لصفات المجتمع باعتبارها نتيجة لخصائص الأفراد في هذا المجتمع. ويُقال عن هذه الخصائص، كما سنرى، أنها تُستمد من جينات الأفراد. فلو خاضت المجتمعات البشريّة حربًا ما، فهذا يعود إلى أن كل فرد في المجتمع كان عدوانيًا بطبيعته. و إذا سيطر الرجال بمجموعهم على النساء، أو سيطر البيض على السود، فهذا لأن لدى كل رجل الرغبة في السيطرة والهيمنة على كل امرأة، وأن لدى كل فردِ أبيض مشاعر عداء تظهر برؤية جلدٍ أسود. أي أن بنية المجتمع تعكس أصلا ميول أفراده ونزعاتهم. فالمجتمعات ليست سوى مجموع الأفراد فيها، مثل الثقافة حين ينظر لها باعتبارها مجرّد مجموع قطعٍ مفككة من عادات الأفراد وتقاليدهم.
نظرة كهذه تخلط بشدّة بين فطرة الإنسان وظواهر أخرى مختلفة جدا (وجزء من هذا يعود للبس لغوي). من الواضح أن بريطانيا وألمانيا لم تعلنا الحرب ضد بعضهما عام 1914 لأن الأفراد البريطانيين والألمانيين شعروا بالعدوانية. لو كان هذا ما حدث، ما كنا سنحتاج للتجنيد الإلزامي. قام الإنجليز، والكنديون، والأمريكيون بقتل الألمان، والعكس بالعكس، لأن حكوماتهم وضعتهم في موضع يحتّم عليهم فعل ما فعلوه. إن رفض التجنيد كان يعني الذهاب للسجن، ورفض إطاعة الأوامر على أرض المعركة كان يعني الموت. كرّست الحكومة أجهزتها لنشر البروباغندا، والموسيقى الحربية، والقصص الوحشيّة عن العدو، لإقناع مواطنيها أن حياتهم وعفّة بناتهم يهددها البرابرة الأعداء. إن الخلط بين العدوان الفردي والعدوان القومي هو خلط بين اندفاع هرمونات تسري في جسد شخصٍ صُفع وجهه، وبين أجندة سياسيّة تسعى للتحكم بالموارد الطبيعيّة، وبخطوط التجارة، وأسعار المواد الزراعية، وتوافر الأيدي العاملة، وهذه هي أسس الحرب. من المهم أن ندرك أن المرء لا يحتاج أن يتبنى نظرة محددة لفطرة الإنسان ليرتكب خطأ أن المجتمعات نتاج أفرادها، فالأناركي الشهير الأمير كريبتوكين Pyotr Kropotkin [5] قال بوجود فطرة بشريّة مشتركة، لكنها ستقود للتعاون والتشارك وستكون ضد التشكيل الهرمي، وأن هذا سيحدث فقط في حال حُرّرت لتحقق ذلك. لكن نظريته لا تختلف عن نظريّة هيمنة الفرد باعتباره مصدر المجتمع ومسببه.
بعدما أتمت نظريّة الأحياء الاجتماعيّة وصف المؤسسات الاجتماعيّة البشريّة المشتركة (والتي قيل أنها بدورها نتاج طباع الأفراد) انتقلت لادعاء أن كل واحدة من هذه الطباع مكتوب في جيناتنا. هناك جينات للريادة، ولهيمنة الذكور، وللعدوانية، حتى الخلافات بين الجنسين وبين الوالدين والأبناء يُقال أنها مكتوبة جينيًا. ما هو الدليل إذاً على أن هذه القواسم المشتركة بين البشر موجودة فعلاً في الجينات؟ يتم عادة تأكيد ذلك بالقول أن هذه القواسم ببساطةً مشتركة بين جميع البشر، فلابد أن تكون جينيّة المصدر. أحد الأمثلة الكلاسيكية لهذا هو نقاش الهيمنة الجنسية. كتب البروفيسور ويلسون[6] في صحيفة لنيويورك تايمز New York Times أنه "في المجتمعات البدائية، يقوم الرجال بمهمة الصيد، بينما تبقى النساء في الدار. هذا الانحياز بقي موجوداً في معظم المجتمعات الصناعية والزراعية [من الواضح أن ويلسون لم يطلع بعد على النساء كقوى عاملة]،على هذا الأساس وحده يظهر لنا أن هذا الأمر ذو أصلٍ جيني" يخلط هذا التعاطي بين الملاحظة والاستنتاج. من الواضح أن هذه الحجة بهلاونية وإلا لأمكن أن نعتبر أنه بما أن 99٪ من الفنلنديين هم لوثريون، فإنه لابد من وجود جينٍ لهذا.
يُقدّم دليلٌ ثانٍ على هذا وهو أن الحيوانات كذلك تظهر ذات الصفات، وبالتالي، لابد أننا نشترك معها في التسلسل الجيني. يُقال أن النمل لها "عبيد" ولها "ملكات". لكن العبودية عند النمل لا علاقة لها بالبيع والشراء في المزادات، ولا علاقة لها بالتسليع الذي يعتبر أساس علاقة العبودية في المجتمعات البشريّة. في الحقيقة، العبيد عند النمل دائما ما يكونون كائنات حية من أنواع أخرى، إن العبودية لدى النمل تشبه أكثر تدجين الحيوانات. وليس للنمل كذلك "ملكات" كما لنا إليزابيث الأولى والثانية. ما تسمّى "ملكة" في الحقيقة تُغذى قسرًا وتوضع في حُجرة خاصة في وسط مستعمرة النمل لتكون هي مصنع البيض، ولا علاقة لذلك بحياة إليزابيث الأولى أو الثانية ولا تشبه أدوارهما السياسيّة في المجتمع. إن تسميات كـ"عبد" و"ملكة" ببساطة ليست تسميات ملائمة لوصف التشابه بيننا. رغم ذلك، يُقال أن "عبودية" النمل و"مَلَكِيّة" النمل يُشكّلان امتدادًا سبييًا مهمًا يصل لنظرائها من البشر، فهما نتاج ذات قوى الانتخاب الطبيعي.
هذا الخلط بين صفات الحيوانات وصفات المجتمع البشري هو مثال على مشكلة التشابه والتناظر Analogy and homology. يقصد علماء الأحياء بالصفات المتناظرة homologous خصائص الكائنات التي تشترك فيها مختلف أنواع الفصائل وهذا يرجع لتشاركها الأصل البيولوجي وشيئا من التسلسل الجيني المشترك، وتنبع هذه الخصائص من الٍسمات المشتركة في التشريح والنمو. على الرغم من أن عظام ذراع الإنسان وعظام جناح الخفاش يبدوان مختلفين تماما في الشكل وفي الغرض، إلا أنهما يُعدّان متناظرين، لأنهما ينتميان لنفس البنية وتؤثر عليهما ذات الجينات. من ناحية أخرى جناح الخفاش وجناح الحشرة متشابهان (analogous) فحسب. أي: أنهما يظهران من الخارج متشابهين في الشكل ويؤديان إلى حد ما ذات الوظيفة. لكن ليس لهما أصل مشترك على المستوى الجيني والشكلي morphological. لكن التشابه موجود فقط في عين الملاحظ. كيف نقرّر أن العبودية والملكية عند النمل تشبهان العبودية والعائلات الملكية عند البشر؟ كيف نقرّر أن (الخجل) الذي نراه في الناس هو ذات السلوك الذي نسميه عند الحيوانات (الخجل)؟ ما يحدث هو أن تصنيفات الناس تسقط على الحيوانات بالتشبيه (analogy) (وذلك -إلى حدّ ما- لأنه الأسهل لغوياً) وثم بعد ذلك "تُكتشف" هذه الصفات -التي وضعها البشر- في الحيوانات لتوضع على البشر كما لو كان للاثنين أصل مشترك. في الحقيقة لا يوجد مثقال ذرة من دليل على أن الأساس التشريحي والفسيولوجي والجيني لما نسميه عدوانية عند الفئران يناظر بأي شكل من الأشكال الغزو الألماني/النازي لبولندا عام 1938.
أما الدليل الثالث للأساس الجيني للسلوك الاجتماعي البشري نجده في ما يُشاهد من إمكانيةٍ لتوريث الصفات البشريّة. يُقال بأن صفاتٍ كالانطوائية Intoversion والانفتاحية Extroversion، والطباع الشخصية، والنشاط النفسي والرياضي، والتهيج الجنسي، والرغبة في السيطرة، والاكتئاب، بل حتى كوننا محافظين أو ليبراليين، يُقال أن كل ذلك صفات موروثة. لكن الدليل على إمكانية توريث هذه الصفات معدومٍ البتّة. يجب أن نتذكر أن علم الوراثة هو دراسة المتشابه والمختلف بين الأقارب Relatives. نحكم على إمكانية توريث الأشياء لو كان الأقارب الأقرب لنا أكثر تشابهًا من أولئك الأقارب الأبعد عنا أو ممن لا قرابة لنا بهم. لكن مشكلة علم الوراثة عند البشر بالتحديد أن التشابه بين الأقارب لا ينشأ فقط لأسباب بيولوجيّة بل كذلك لأسباب ثقافية، لأن أفراد ذات العائلة يشتركون في البيئة ذاتها. كانت هذه ولا زالت مشكلة علم الوراثة عند البشر، سواءً كنا نتحدث عن التشريح أم عن الصفات الشخصية. معظم دراسات توريث الصفات الشخصية ليست سوى ملاحظة أن الوالدين وأبناءهم يتشابهون في بعض النواحي. في أمريكا الشمالية، التشابه الأكبر بين الوالدين والأبناء في الصفات الاجتماعيّة نجده في اتباع طائفة دينية معيّنة أو حزب سياسي ما، مع ذلك لا نجد أحدًا يعتقد جادًا أن الجينات تحدد ذلك. ملاحظة تشابه الوالدين بأبناءهم ليس دليلاً على تشابههم البيولوجي. الحقيقة أنه لا توجد دراسة وحيدة تناولت السمات الشخصية في التجمعات البشريّة ونجحت في الفصل بين ما هو مشترك بسبب التجربة المشتركة للعائلة، وبين ما هو مشترك بسبب الجينات. إذا فالحقيقة أننا لا نعرف شيئًا عن إمكانية توريث الصفات الشخصية والسمات الفكريّة التي يفترض أنها الأساس للتنظيم الاجتماعي.
هناك إشكال أعمق كذلك فحتى نجري دراسة عن إمكانية التوريث سنحتاج لاختلافات بين الأفراد كيما تكون الدراسة صحيحة منهجيًا، فلو كان كل فرد مطابق للآخر بشكل معين، أي أن كل شخص لديه بالضبط ذات الجينات لذات الصفات، فما من طريقة لفحص إمكانية توريثها، لأن الفحوصات الجينيّة تحتاج للتباين بين الأفراد. نظريّة علم الأحياء الاجتماعيّة تدّعي أن لكل البشر جينات مشتركة للعدوانية، وجينات أخرى للخوف من الغرباء، وجينات للهيمنة الذكورية، وهكذا. لكن لو كنا نتشارك هذه الجينات، ولو أن التطوّر جعلنا متشابهين في هذه الفطرة البشريّة، فمن حيث المبدأ لا يمكن فحص إمكانية توريث الصفات. من ناحية أخرى، لو كان هناك تنوّع جيني بين البشر في هذه الجوانب، فعلى أي أساس سنعتبر مظهرًا معينا هو الفطرة البشريّة المشتركة؟ لو كانت الفطرة البشريّة كما هي مكتوبة في الجينات تجعلنا عدوانيين وراغبين بالحرب، فعلى هذا لابد أن نفترض أن أبراهام جواهنيس Abraham Johannes، الداعي الشهير للسلام، لا يملك هذا الجين، وهو بالتالي، بوجهٍ ما أقل من أن يكون إنسانًا. لو كان، من ناحية أخرى، يملك هذا الجين وداعيًا للسلام في ذات الوقت، فإن هذا الجين لا يبدو قويًا بما يكفي ليقرّر السلوك. وبالتالي، لم لا نكون جميعا مثل أبراهام؟ هناك تناقضات عميقة إذا ما أقررنا بتشابهنا جينيًا في جوانب معيّنة، و(في ذات الوقت) بهيمنة جيناتنا على تحديد سلوكنا، لأننا نلاحظ أيضا أن الناس مختلفون.
أخيرًا، ثمة سذاجة بيولوجيّة استثنائية وجهل مطبق بمبادئ بيولوجيا النمو لدى من يؤكد أن الجينات تقدودنا لسلوك معين في سياقات محددة. يؤثر الحمض النووي DNA بطرق عديدة على نمو الكائن الحي.
أولاً، التسلسل الدقيق للأحماض الأمينية في البروتينات مكتوب في جيناتنا، لكن لا يمكن لأحد أن يخلص إلى أن هذه الأحماض الأمينية لبروتين بعينه قادرة على جعلنا ليبراليين أو محافظين. ثانيًا، تؤثر الجينات على البروتيات لتُصنع في مرحلة معيّنة من النمو وفي جزء معين من الجسم، وهذا بدوره يؤثر على انقسام الخلايا ونموها. وعليه قد ندّعي وجود توليفة ثابتٍة للخلايا العصبية في جهازنا العصبي المركزي تتأثر بتنشيط هذه الجينات أو تثبيطها خلال فترة النمو وهو ما يجعلنا في النهاية مولعين بالحرب أو داعين للسلام. لكن هذا سيتطلّب نظريّة لنمو الجهاز العصبي المركزي لا تدع مجالا لأي تفسير بديل كالصدف خلال فترة النمو، ولا لبُنى ذهنية تستحدثها التجارب. وبالرغم من التنظيم الاجتماعي البدائي للنمل الذي يبدو، مقارنةً بنا، بسيطًا للغاية. فهو مرن للغاية من ناحية قبوله للمعلومات المختلفة من العالم الخارجي. فمجتمعات النمل تغيّر شكلها الاجتماعي الجماعي مع الوقت، وهذا يعتمد على المدة الزمنية التي قضاها التجمع في مكان معين. يتطلّب الأمر مجموعة هائلة من الافتراضات حتى ندعي أن الجهاز العصبي المركزي لدى البشر، الذي يحوي ارتباطات عصبية أعقد آلاف المرات مما عند النمل، يتجاوب بشكل نمطي وثابت جينيًا لمختلف المعطيات والسياقات. هذا التنوع الاستثنائي للسياقات الاجتماعيّة الإنسانيّة سيحتاج لكميّة حمض نووي DNA لا نملكها أصلا. عندنا ما يكفي من الحمض النووي لحوالي 250 ألف جين. لكن هذا لن يكون كافيًا للتعقيد الهائل للتنظيم الاجتماعي البشري لو كان (أي التنظيم) مكتوبًا بالتفصيل في شبكات عصبية محددة. متى ما اعترفنا أن الخطوط العريضة العامة للسلوك الاجتماعي وحدها مكتوبة جينيًا، فعلينا عندها أن نسمح بمرونة عالية على مستوى التفاصيل.
المرحلة الأخيرة لحجة الأحياء الاجتماعيّة هي في القول أن جينات فطرة الإنسان التي نملك نشأت فينا بالتطوّر بالانتخاب الطبيعي. بمعنى، أنه في يوم من الأيام كان البشر متنوّعين جينيًا في قدر عدوانيتهم، وقدر رهابهم للغير، وقدر هيمنة الذكور وهكذا. لكن الأفراد الذين كانوا أكثر عدوانيّة تركوا نسلاً أكثر من غيرهم، وبالتالي فالجينات التي بقيت فينا كبشر كانت الجينات التي تقرّر هذه الصفات (العدوانية وغيرها). تبدو حجة الانتخاب الطبيعي بسيطة ومباشرة إلى حد ما بالنسبة لبعض الصفات. على سبيل المثال، يُقال أن أسلافنا الأكثر عدوانيةً سيتركون نسلاً أكثر، لأنهم سينقضّون على أولئك الأقل عدوانية ويتخلصوا منهم؛ أما الأكثر ريادة فكانوا يستحوذون على المزيد من الموارد الشحيحة وبذلك تسببوا بمجاعة للفقراء. نرى في كل حالة من هذه الحالات، أنه من السهل خلق قصّة مقنعة لتفسير أفضلية الإنجاب لنوعٍ على آخر.
بيد أن بعض الصفات التي يُقال أنها مشتركة لا تتفق بسهولة مع قصّة أفضلية الإنجاب لأفراد على آخرين. أحد الأمثلة التي تناقش بكثرة عند علماء الأحياء الاجتماعيّة هو نقاش سلوك الإيثار. لمَ يجب علينا أن نؤثرَ تحت ظروف معيّنة؟ ولم علينا أحيانًا أن نتخلى عما يبدو ذا فائدة فورية لنا لمصلحة الآخرين وفائدتهم؟ يتجه علماء الأحياء الاجتماعيّة لتفسير السلوك التعاوني، نحو نظريّة انتخاب الأقارب Kin selection. لا يتطلّب الانتخاب الطبيعي لصفة ما أن ينجب الأفراد الذين يتّصفون بها نسلاً أكثر بل يتطلّب أن تكون الجينات التي تعبّر عن تلك الصفات ممثلة في أعداد أكبر من أجيال المستقبل وموجودة فيها.
هناك طريقتان لزيادة تمثيل جينات الفرد في أجيال المستقبل. أحدها أن ينتج نسلاً أكثر؛ وفي حالة أن أحد الأفراد لم ينتج نسلاً أكثر، فإن أحد أقاربه سيقوم بذلك لأن الأقارب يتشاركون في الجينات، ومن هنا يمكن للشخص أن يضحي بخلفته كاملةً في سبيل أن إخوانه وأخواته سينتجون أطفالاً أكثر منه بكثير. وعليه، ستزيد جيناته بشكل غير مباشر عن طريق أقاربه، بهذه الطريقة سيكون قد ترك نسلًا أكثر. مثال على هذه الظاهرة وجود "المساعدين في العش" عند الطيور. حيث يُقال أن الطيور التي لا تُنجب تساعد أقاربها الذين سيكونون حينها قادرين على تنشئة نسل أكبر، في النهاية سيترك هناك جينات أكثر لهذه العائلة. لإنجاح انتخاب الأقارب، لابد أن يزيد نسل الأقارب. مثال ذلك أن الفرد لو ضحى بنسله هو، لابد أن ينتج إخوانه وأخواته ضعف العدد المعتاد من الخلفة، [وهذا صعب لكن] يمكن للمرء أن يحكي قصّة قد تجعل حدوث هذا معقولاً.
لم يبق لنا الآن إلا الصفات التي لا تميّز الأقارب حتى، مثلاً، الإيثار العام لكل أعضاء النوع. لمَ نحن جيدون تجاه الغرباء؟ يقدّم منظرو الأحياء الاجتماعيّة لهذه الظاهرة نظريّة "الإيثار المتبادل - reciprocal altruism". تقول الحجة أنه حتى لو لم تكن بيننا قرابة، فلو قدّمتُ معروفًا لك، وهذا المعروف قد كلفني شيئاً ما، فإنك ستتذكر هذا المعروف وستردّه لي في المستقبل. وبهذه الطريقة غير المباشرة، سأنجح في تحسين فرص تكاثري. على سبيل المثال لو مررت بشخص يغرق وخاطرت بحياتك لإنقاذه. ففي المستقبل، لو كنت أنت من يغرق، سيتذكر الشخص الذي أنقذته مافعلت، وسيهب لإنقاذك بدافع الامتنان. وبهذا الأسلوب غير المباشر، تكون قد زدت فرصة نجاتك وتكاثرك على المدى الطويل. مشكلة هذه القصّة بالطبع أن آخر شخصٍ تود الاعتماد عليه لإنقاذك من الغرق هو الشخص الذي قمت بإنقاذه سابقاً، كونه، على الأرجح، ليس سباحًا ماهرًا.
إن المشكلة الحقيقيّة للتفسير الذي يستند على النفع المباشر، أو انتخاب الأقارب، أو الإيثار المتبادل (إذا كان أحد هذه مفيدًا في التفسير) أنه يمكن اختراع أي قصّة توضح التفوق في الانتخاب الطبيعي لكل صفة يمكن تخيلها. حين يجتمع التفوق في انتخاب الفرد مع انتخاب الأقارب مع الإيثار المتبادل؛ يصعب تخيل أي صفة بشريّة ليس لها سيناريو معقول لتبرير تفوقها الانتخابي. المشكلة الحقيقيّة تكمن في كشف صحّتها، ولذا علينا التفريق بين القصص المعقولة (القصص التي قد تكون صحيحة) وبين القصص التي حدثت بالفعل.- كيف نحدد: هل ظهور سلوك الإيثار عند البشر سببه انتخاب الأقارب أم الإيثار المتبادل؟ كحد أدنى، يمكن أن نطلب أي دليل على أن هذه العمليات الانتخابية تحدث في وقتنا الحاضر، لكن الحقيقة أنه لم يسبق لأحد حتى الآن أن قاس في أي مجتمع بشري الأثر المحفّز للتكاثر والأثر المعيق للتكاثر لأي سلوك بشري. كل التفسيرات المطروحة لتطوّر السلوك البشري تشبه تفسيرات قصص روديارد كيبلنينج Rudyard Kipling عن كيف حصل الجمل مثلًا على سنامه أو كيف حصل الفيل على خرطومه. إنها مجرّد قصص. لقد أضحى العلم لعبة بهذا.
يمكن توضيح كل الحجج التي يستخدمها علم الأحياء الاجتماعيّة من خلال مثالين. الأول يستخدمه علماء الأحياء الاجتماعيّة كتمرين تعليمي خيالي أما الثاني فهو مثال جدّي. يتعلق المثال الأول بمسألة كره الأطفال للسبانخ وحب الكبار البالغين لها. وضعت هذه القصّة في كتب المرحلة الثانوية التي كتبها علماء الأحياء الاجتماعيّة لتدريب الطلبة وتكييف تفكيرهم. تبدأ أول خطوة عند وصف أمر مشترك بين البشر: كل الأطفال يكرهون السبانخ. للتأكد من كون كراهية الأطفال للسبانخ أمرًا مشتركًا، لا يجب على الطلبة إلا أن النظر حولهم وسؤال أصدقائهم. إضافة لهذا، فعندما ننظر حولنا نجد أن الكبار البالغين يأكلون السبانخ، كيف حدث هذا؟ الخطوة التالية أن نتخيل وجود جين يجعل الأطفال يكرهون السبانخ بينما يجعل الكبار يحبونها. لاحظ كيف يفترض ببساطة وجود جين رغم عدم وجود أي دليل. تحوي السبانخ مادة أسيد الأوكساليت Oxalic acid، وهي تتعارض مع عملية امتصاص الكالسيوم الذي يحتاجه الصغار لعظامهم التي تنمو في هذا الوقت. لذا فإن أي طفل في الماضي قد حصل على الجين الخطأ وأكل السبانخ سيكون هناك خلل في نموّه، وسيكون عانى من الكساح، ولن يترك نسلاً وراءه . لكن بالنسبة للبالغين، فعظامهم توقفت عن النمو، الكالسيوم لم يعد مهمًا الآن، ويسمح لهم بالتالي الاستفادة من المواد الغذائية الموجودة في السبانخ، ليس هناك انتخاب طبيعي يجعلهم يكرهونه. يُستنتج من هذا أن كراهية الأطفال للسبانخ أمر محدد جينيًا، أي أنه جزءٌ من فطرتنا البشريّة. وهنا نجد قصّة كاملة موضّحة تدّعي وجود حقيقة مشتركة للفطرة البشريّة. لا يجب أن ندع سخافة هذه الحالة تشتتنا عن ملامحها الجوهرية. إذ يقصد بها تعليم الطلبة كل أجزاء حجة المذهب الطبيعي للفطرة البشريّة. إنها تختلق ملاحظة وتعممها بالنظر حولها. وتفترض وجود جينات دون دليل، لتحكي بعدها قصّة مقنعة (أو لعلها غير مقنعة).
دعونا نرى كيف يتم تطبيق هذا على المثال الثاني الأكثر جدية والذي يتباحثه بإسهاب علماء الأحياء الاجتماعيّة: مسألة وجود المثليّة الجنسيّة في المجتمعات البشريّة. يُقال أن المثليّة الجنسيّة إشكال بيولوجي لأن المثليين، بشكل عام، لا ينجبون أي نسل، يفترض إذاً أن جينات المثليّة اختفت منذ وقت طويل. لمَ لم يحدث ذلك؟ لإجابة هذا نجدهم يبدؤون بفرضية أن المثليين ينجبون نسلاً أقل. هذا الافتراض يُلمح أن السلوك الجنسي البشري مقسم بشكل حاد بين طرفين: المثليون جنسيًا بالكامل، والمتغايرون جنسيًا (الذين يفضّلون الجنس الآخر) بالكامل. بيد أن هذا الوصف لا يتوافق مع ما نعرفه عن جنسانية البشر Human sexuality. فسلوكنا في الحقيقة ليس مقسمًا إلى فئتين فقط. على العكس، هناك طيف للنشاط الجنسي والرغبة الجنسية ابتداءً بمن لا ينخرطون في أي نشاط جنسي إلا مع الجنس الآخر، مرورًا بمن لهم تجارب جنسية أوسع، ومرورًا بمن هم ثنائيو التوجّه الجنسي Bisexual بشكل منتظم، وصولاً لمن هم مثليون بالكامل. وفقاً لعدد من الاستطلاعات، فإن حوالي نصف الذكور في أمريكا الشمالية قاموا بممارسة مثلية واحدة على الأقل. نجد كذلك تنوًعًا في هذا المدى (مدى الرغبة الجنسية) بين مختلف الطبقات الاجتماعيّة. انتشرت ثنائية التوجّه الجنسي مثلاً في الطبقات العليا في روما واليونان، بل في الواقع، ثمة فرق بين ما كان يعد ممارسةً مثلية معتادة في تلك المجتمعات وبين ما نعدّه نحن ممارسة مثلية في مجتمعنا الحاضر. إننا لا نجد مثقال ذرّةٌ من دليل على معدّل الإنجاب للذين يملكون تاريخًا جنسيًا مختلفا. من الواضح أن من ينخرطون بشكل حصري في سلوك مثلي لم تكن لهم ذريّة (إلى أن وُجدت آخر تطوّرات التخصيب الصناعي). لكن لا نعرف شيئا عن معدّل إنجاب الذين هم متغايرون جنسيًا بالكامل، ومعدّل إنجاب الذين يملكون مدى أوسع من التجارب الجنسية. فعلى سبيل المثال، نحن لا نعرف فيما إذا كان شخص 40٪ من لقاءاته الجنسية مع جنس مختلف بينما 60٪ من لقاءاته لقاءات مثلية، سيترك نسلاً أكثر أو أقل من شخصٍ متغاير-جنسيًا 100٪. في الحقيقة، يمكن لنا أن نُحاجّ بأن ثنائية التوجّه الجنسي تعد تمظهراً عامًا لرغبة جنسية أكبر، فقد يتضح لنا أنهم ينجبون أكثر من غيرهم. لكننا ببساطة لا نعرف الإجابة.
ثانيًا، لا يوجد أي دليل -على الإطلاق- على وجود اختلافات جينيّة بين الأفراد ذوي التفضيلات الجنسية المختلفة. لو كان صحيحًا أن المثليين لا يتركون نسلاً، سنواجه مشكلة حقيقيّة في دراسة إمكانية توريث السلوك الجنسي. في الحقيقة، لا توجد أي دراسة عن إمكانية توريث السلوك الجنسي، وعليه فادعاءات الميل الوراثي لمختلف أشكال النشاط الجنسي ما هي إلا وَهمٌ محض.
أخيرًا، هناك مشكلة القصّة التطوّريّة. تلك التي يحكيها علماء الأحياء الاجتماعيّة عن المساعدين في العش أو الأوكار. يقولون أن المثليين في الماضي لم ينجبوا بأنفسهم، لكنهم ساعدوا إخوتهم المتغايرين جنسيًا ليربوا أطفالاً أكثر، وذلك عبر مشاركة الموارد معهم، وأن هذا التعويض كافٍ ليبقي جينات المثليّة الجنسية في التجمعات السكنية. لابد أن نتذكر أن المثليين الذين لا ينجبون لابد لهم أن يساعدوا إخوتهم ليكونوا قادرين على مضاعفة نسلهم، هذا إذا أردنا لعملية تطوّر الأقارب Kin selection أن تنجح. لكن لا يوجد أي دليل على وجود المساعدين في الوكر في المجتمعات البشريّة. لو كان أسلافنا البعيدون في حقبة ما قبل التاريخ يشبهون الصيادين الحديثين بأي شكل كان فستكون المشاركة العامة للمصادر ظاهرة شائعة ليس فقط داخل العائلة بل داخل كل القرية، وعليه فإن "الوكر" سيشمل الآن غير الأقارب. إننا لا نعرف شيئا عن نسبة نسل من له إخوة أو أخوات مثليون في زماننا، لأنه لم يسبق لأحد قياس حجم العائلة مستحضرا هذا السؤال.
وعليه، فكل التعاطي مع الأساس التطوّري للتفضيل الجنسي عند البشر قصّة مختلقة، من بدايتها وحتى نهايتها. مع ذلك فهي قصّة تظهر في كتب الدراسة، وفي مقررات المدارس الثانوية والجامعات، وفي الكتب الشعبية والمجلات. وهي تحمل الشرعية المعطاة لها من أساتذة الجامعة المشاهير ومن وسائل الإعلام الوطنية والعالمية. تستقي هذه القصّة سلطة العلم. ومن ناحية فهي فعلا علم. لأن العلم ليس مجرّد مجموعة حقائق صحيحة متعلقة بالعالم، بل هو الجسد المكون من التأكيدات والنظريات المتعلقة بالعالم والتي يقدمها من نسميهم "العلماء". وهو يتألف، في جانبٍ كبير منه مما يقوله العلماء عن العالم بغض النظر عن كيف هي حالة هذا العالم الحقيقيّة.
العلم أكثر من مجرّد مؤسسة مكرسة لتسخير العالم الماديّ، إذ يلعب دورًا في تشكيل الوعي عن الواقع السياسي والاجتماعي. العلم من هذا الجانب هو جزء من نهج التعليم العام، وتأكيدات العلماء هي الأساس لجزء كبير من تشكيل الوعي. التعليم بشكل عام، والعلمي منه بشكل خاص، لا يُراد منه أن نكون مؤهلين وأكفاء لتسخير العالم فحسب، بل وأن يُشكّل مواقفنا الاجتماعيّة كذلك. لم يلاحظ أحدٌ هذا بوضوح أكثر من دانييل ويبستر Daniel Webster، وهو أحد أكثر الشخصيات السياسيّة المحافظة شهرةً في التاريخ الأمريكي - الذي كتب "التعليم شكل من أشكال الشرطة، أكثر حكمة وتحررا، يسعى لحفظ النظام وصون ممتلكات الناس، وحياتهم، والسلام في المجتمع".