يتميّز علم الأحياء الحديث بعدد من الأحكام الأيديولوجية المسبقة التي تحفّ تفسيراته وطريقة القيام بأبحاثه. إحدى تلك الأحكام المسبقة الرئيسية تتعلق بطبيعة الأسباب. يبحث المرء عادةً عن سبب نتيجةٍ ما، وعندما تتعدّد الأسباب يفترض وجود سبب رئيس وأسباب أخرى ثانوية، وأيًا يكن عدد الأسباب، تُفصل الأسباب عن بعضها وتُدرَس وحدها ويكون التعاطي معها بشكل مستقل. علاوة على ذلك، يُنظر إلى الأسباب على المستوى الفردي أي على مستوى جين بمفرده، أو مستوى عضو معطوب، أو مستوى إنسان فرد، وهنا تتركز الأسباب إلى أسباب داخلية بيولوجيّة أو خارجيّة من طبيعة مستقلة قائمة بذاتها.
تتجلى هذه النظرة للأسباب بشكلٍ واضح في نظرياتنا عن الصحة والمرض. نجد أن كل كتب الطب تقول أن سبب السل هو العُصيّة السليّة tubercle bacillus، التي تسبّب لنا المرض حين نصاب بعدواها. يقول علم الطب الحديث أن سبب عدم موتنا بالأمراض المعدية أن علم الطب (بمضاداته الحيوية وعوامله الكيميائية ووسائله التي تعتمد على تقنيات متقدّمة لعلاج المرضى) تغلّب على البكيريا.
ما سبب السرطان؟ سبب السرطان هو النمو غير المحدود للخلايا، هذا النمو المنفلت بدوره هو نتيجة فشل بعض الجينات المسؤولة عن ضبط انقسام الخلايا، وبذلك يكون سبب السرطان أن جيناتنا لا تقوم بدورها. كان الناس يظنون أن الفيروسات هي أكبر مسبب للسرطات، فأُنفقت أموال وأوقات طائلة في البحث عن الأسباب الفيروسية للسرطان في البشر، دون أن يكون ذلك مجديًا. مضى علم الأحياء قُدمًا وانتقل من زمان الغضب على الفيروسات إلى زمن الغضب على الجينات، إذ أصبحت هي الموضة.
ثمة نظريات أخرى تجعل الأخطار البيئية أسبابًا للسرطان. قيل لنا أن سبب السرطانات هو الأسبست asbestos أو متعدد كلوريد الفينيل أو غيرها من المواد الكيميائية الطبيعيّة، والتي ليس لنا تحكّم عليها، وعلى الرغم من أنها تتواجد بتراكيز ضئيلة جداً، إلا أننا نتعرض لها على امتداد حياتنا؛ وكما كان علينا النجاة من الموت بالسل بالتخلص من بكيريتيه، سننجو من السرطان بالتخلص من المواد الكيميائية القذرة في البيئة. لا شك أنه لا يمكن لأحد أن يُصاب بالسل دون العُصيّة السلّية وثمة أدلة مقنعة أنه لا يمكن أن يصاب أحد بورم المتوسطة[1] mesothelioma دون أن يبتلع الأسبست أو ما يشبهه من مركبات؛ لكن القول بذلك يختلف عن أن نقول أن سبب السل هو العُصيّة السليّة وأن سبب ورم المتوسطة هو الأسبست. ما أثر ذلك على صحّتنا إن فكرنا بهذه الطريقة؟ فلنفترض أننا لاحظنا أن السل كان منتشرًا بشدّة في المصانع البائسة في القرن التاسع عشر وفي ذات الوقت كانت نسبة السل أقل بكثير لدى من يعيشون في الأرياف ومن هم من الطبقات العليا. يحقّ لنا وقتها أن ندّعي أن سبب السل هو الرأسمالية الصناعية غير المُقنّنة، وأننا إن تخلصنا من هذا النظام الاجتماعي، فلن تقلقنا العُصيّة السلّية. عندما نتأمل تاريخ الصحة والمرض في أوروبا الحديثة سنجد أن ذلك التفسير لا يقل منطقية عن لوم البكتيريا المسكينة.
ما هي الأدلّة على أن علم الطب الحديث كان مفيدا؟ لا شك أننا نعيش مدّة أطول بكثير من أسلافنا إذ كان العمر المأمول للطفل الأبيض عندما يولد في أمريكا الشمالية عام 1890 يبلغ 45 سنة فقط، لكنه الآن أصبح 75 سنة، بيد أن سبب ذلك ليس أن الطب الحديث أطال أعمار المُسنّين والمُسنّات والمرضى والمريضات، بل إن مقدارًا كبيرًا من هذا التغيّر في العمر المأمول كان بسبب الانخفاض الكبير في وفيّات الرُضّع. قبل مطلع القرن العشرين ولاسيما في أوائل القرن التاسع عشر كان من الوارد جدا ألا يعيش الطفل ليبلغ سنة واحدة. في الولايات المتحدة وفي عام 1860 كانت نسبة وفاة الرُضّع تبلغ 13%، ولذلك فمعدّل العمر المأمول للسكان عموما انخفض بشدّة بسبب هذا الموت المبكر؛ إذ في ذات الوقت، تبيُّن الشواهد على قبور من ماتوا في منتصف القرن التاسع عشر أن كثيرين ماتوا في أعمارٍ متأخرّة. الحقيقة أن علم الطب لم يضف إلا سنوات قليلة لمن عاشوا ليبلغوا مرحلة النضوج. في آخر 50 سنة، أضيفت حوالي 4 أشهر فقط للعمر المأمول لمن بلغ أصلا 60 سنة.
نعرف أن النساء في أوروبا الحديثة يعشن مدة أطول من الرجال، لكن لم يكن هذا هو الحال في السابق. قبل مطلع القرن العشرين كانت النساء يمتن قبل الرجال، وكانت إحدى التفسيرات التي قدّمها علم الطب أن أحد الأسباب الرئيسية لموت النساء في الأيام التي سبقت الطب الحديث كانت حُمّى الولادة Childbirth fever. وفقا لهذه النظرة، فالطب الحديث المُضاد للبكتيريا بممارساته التي تُتبّع في المستشفيات أنقذ حياة النساء الصغيرات أثناء الولادة؛ لكن بالنظر إلى الإحصاءات نجد أن حُمّى الولادة كانت سببا محدودًا للوفاة في القرن التاسع عشر، حتى لدى النساء في سنّ الحمل، ولم يكن هذا بالتأكيد هو سبب الزيادة المفرطة في وفيات النساء؛ إذ الحقيقة أن كل تلك الوفيات المفرطة كانت نتيجة لمرض السلّ وحين لم يعد السلّ سببا رئيسيا للوفاة، لم تعد أعمار النساء أقصر من الرجال. إحدى أبرز مسبّبات الوفاة للأطفال كانت الحروق ولا سيما للفتيات الصغيرات وذلك لأن الفتيات كن يمضين أوقات طويلة في ظروف خطيرة أمام نار المطبخ المفتوحة. بينما كان إخوتهنّ الصغار يمضون وقتا طويلا خارج المنزل في الورش، ورغم أن ظروف العمل فيها لم تكن الأفضل بكل تأكيد، إلا أنها كانت أقل خطورةً من مواقد المنزل.
فلنعد الآن إلى السلّ وغيره من الأمراض المعدية التي كانت من أشدّ مسببات الموت في القرن التاسع عشر وفي بداية القرن العشرين. بتأمّل أسباب الوفاة التي كانت موثّقة بمنهجيّة منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر في بريطانيا وبعد ذلك بقليل في أمريكا الشمالية يظهر أن معظم الناس ماتوا فعلا من أمراض معدية ولا سيما الأمراض التنفسيّة. كان الناس يموتون من السل، والخُنّاق (diphtheria)، والتهاب الشعب الهوائية، والالتهاب الرئوي، وبالنسبة للأطفال تحديدا فكانوا يموتون من الحصبة ومن القاتل الأزلي: الجدري. كانت نسبة الوفيات من تلك الأمراض تقل باستمرار طوال القرن التاسع عشر. كان التعاطي مع الجدري بتقّدم طبي، لكنه تقدّم يصعب أن يُدّعى أنه جاء من علم الطب الحديث لأن لقاح الجدري اكتشف في القرن الثامن عشر، وكان مستخدمًا على نطاقٍ واسعٍ في بداية القرن التاسع عشر. انخفض مُعدّل الوفيات من الأمراض القاتلة الرئيسية كالتهاب الشعب الرئيسية والالتهاب الرئوي والسل بشكل منتظم وملفت خلال القرن التاسع عشر دون سبب واضح. لم تتغيّر نسبة الوفاة بأي شكل ملحوظ بعد اكتشاف النظريّة الجرثوميّة للأمراض عام 1876 على يد روبرت كوخ Robert Koch. استمرّت نسبة الوفاة في النقصان وكأن روبورت كوخ لم يوجد. عندما اختُرع العلاج الكيمائي للسل في بدايات القرن العشرين، كان أكثر من 90% من الانخفاض في معدّل الوفيات قد حصل أصلاً.
إحدى أكثر الأمثلة دلالة هي الحصبة. في زماننا هذا يندر أن يُصاب الأطفال الأمريكيون والكنديون بالحصبة بسبب اللقاح، لكن قبل جيل كان كل طفل وطفلة يدخلان المدرسة يُصابان بالحصبة، ورغم ذلك كانت الوفيات من الحصبة نادرة للغاية. في القرن التاسع عشر كانت الحصبة إحدى أكثر الأمراض القاتلة انتشارا بالنسبة للأطفال، ولا تزال السبب الأكثر لوفيات الأطفال في كثير من الدول الأفريقيّة. كانت الحصبة مرضًا يُصاب به الجميع، ولم يكن له شفاء أو علاج طبّي، ثم -وببساطة- لم يعد قاتلا للأطفال في البلدان المتقدّمة.
لم يكن الانخفاض المتسارع في معدّل الوفيات نتيجة لنظام التصريف الحديث أيضا، لأن الأمراض القاتلة في القرن التاسع عشر كانت أمراضًا تنفّسيّة ولم تكن أمراضًا تُنقل بالماء. ليس مؤكدًا أيضا أن الزحام بذاته كان له دور كبير في ذلك لأن بعض أجزاء مدننا لا تزال بنفس ازدحامها الذي كان في عام 1850. ما يبدو لنا أن سبب انخفاض معدّل الوفيات من الأمراض المعدية القاتلة التي كانت في القرن التاسع عشر كان نتيجة تحسّن عامّ في التغذية وذلك متصل بالزيادة الفعلية للمرتبات. يُشاهد اليوم في بلدان كالبرازيل مثلا أن وفيات الرُضّع تصعد وتهبط بانخفاض وارتفاع الحدّ الأدنى للأجور. التحسن الكبير في التعذية يفسر أيضاً انخفاض معدّل الإصابة بالسلّ الذي كان أكثر في النساء من الرجال. كان الرجال العاملون في بريطانيا في القرن التاسع عشر (بل لفترة طويلة من القرن العشرين) أفضل تغذية من النساء ربّات البيوت. كان إذا تيسّر لأسر الطبقة العاملة شراء اللحم أن يُجعل من نصيب الرجل. إذًا: ثمة تغييرات اجتماعيّة مُعقّدة قادت إلى زيادة حقيقيّة في دخل الغالبيّة الساحقة من الناس، وانعكس ذلك بتحسّن كبير في تغذيتهم، وذلك هو أساس طول العمر، وانخفاض نسبة الوفاة من الأمراض المعدية. ورغم أنه يمكن أن يُقال أن العُصيّة السلّية تُسبّب السل، إلا أننا سنكون أقرب للحقيقة إذا ما قلنا أن الأحوال التي فرضتها الرأسمالية التنافسية غير المُقنّنة والتي لم تجابهها النقابات العمالية ولا الدولة، كانت سبب السل. وبما أن الأسباب الاجتماعيّة ليست داخلة في نطاق علم الأحياء؛ لا يزال يُلقّن طلاب وطالبات الطب أن سبب السل هو العُصيّة.
في العشرين سنة الماضية، وبسبب تراجع الأمراض المعدية عن كونها سببًا مهمًا لتدهور الصحة، جُعلت أسباب أخرى متفرّقة مسؤولة عن الأمراض. ما من شك أن الملوثات والمخلفات الصناعية هي الأسباب العضوية المباشرة للسرطان، وللرئة السوداء لعمال المناجم، وللرئة البنية لعمال النسيج، وغير ذلك من أمراض كثيرة؛ ومما لا شك فيه أيضًا أنه ثمّة بقايا لمواد مسرطنة حتى في أفضل الأطعمة التي نتناولها، وأن الماء الملوّث بمبيدات الحشرات ومبيدات الأعشاب يُمرض العاملين والعاملات في المزارع؛ لكن القول بأن مبيدات الحشرات تسبّب موت العاملين والعاملات في المزارع وأنّ ألياف القطن تسبّب الرئة البنية لعمال النسيج يجعلنا مهووسين بالجمادات. علينا أن نفرّق بين العوامل والمسبّبات. تعتبر ألياف الأسبست ومبيدات الحشرات عوامل للمرض والإعاقة، لكن من الوهم أن نظن أننا إن قضينا على هذه المواد المضرّة فستذهب الأمراض، لأن موادًا مضرّة أخرى ستحّل محلها. ما دامت المؤسسات المُنتجة في العالم تدفعها الكفاءة (وهي تضخيم أرباح الإنتاج) أو تنفيذ خطط الإنتاج المركزية دونما اعتبار للوسيلة، وما دام الناس مجبرين على إنتاج أشياء معيّنة واستهلاك أشياء معيّنة بسبب الاحتياجات الاقتصاديّة أو بسبب أنظمة الدولة فسيستبدل ملوثٌ بملوثٍ آخر. تحسِب الهيئات التنظيميّة وإدارات التخطيط المركزي التكلفة إلى المردود، وتجعل للبؤس البشري قيمة بالدولار. ليس الأسبست ولا ألياف القطن مسببات السرطان، بل هي عوامل للأسباب وللتمظهرات الاجتماعيّة التي تحدّد حياتنا الإنتاجية والاستهلاكية، وفي النهاية تغيير تلك القوى الاجتماعيّة وحده هو الذي سيجعلنا نصل لعمق المشاكل الصحيّة. أحد أقوى وسائل الإيهام التي يتبعها العلم وأيديلوجيته أن ينقل تلك القوة السببيّة من العلاقات الاجتماعيّة إلى العوامل الجامدة لتكون حينها وكأنها بذاتها هي المهيمنة على حياتنا.
وكما صارت الملوثات أحدث نسخة من القوى الخارجية العدائية التي أرسلها العالم الماديّ لنواجهها، صارت القوى الداخلية (وهي الجينات) المسؤولة ليس عن الصحة البشريّة بالمعنى الطبي المعهود فحسب، بل المسؤولة أيضا عن مشكلات اجتماعيّة عديدة كالإدمان على الكحول والإجرام وإدمان المخدرات والأمراض العقلية. يُؤَكد لنا أننا إن عثرنا على الجينات المسؤولة عن الإدمان على الكحول أو الجينات التي تنفلت لنُصاب بالسرطان، فستُحل مشكلاتنا. يتجسّد هذا الإيمان بأهمية الوراثة في تحديد صحّتنا ومرضنا في مشروع الجينوم البشري، وهو مشروع بلغت قيمته عدة مليارات وعمل عليه علماء وعالمات بيولوجيا من أمريكا وأوروبا وأريد له أن يحلّ محل برنامج استكشاف الفضاء بصفته المستهلك الرئيس للأموال العمومية بهدف الانتصار على الطبيعة.
نعرف الكثير عن تركيب الجينات وعن وظيفتها بأدق التفاصيل. الجين هو سلسة من عناصر اسمها النوكليوتيدات التي منها أربعة أنواع فقط يُرمز لها بالأحرف A و T و C وG. كل جين هو تسلسل قد يصل إلى آلاف أو عشرات آلاف الأحرف بترتيب معين: AATCCGGCATT وهكذا. هذا التسلسل الطويل له وظيفتين. الوظيفة الأولى أن جزءًا منه يحدّد (كأنه شفرة) تركيبة جزيئات البروتين في أجسادنا، والبروتينات هي المواد التي تُبنى منها خلايانا وأنسجتنا، وكذلك الإنزيمات والهرمونات التي تجعل التمثيل الغذائي metabolism ممكنا. من كل تسلسل من حروف A و T و C و G تنتج أجهزة الجسم جزيئًا طويلا وهو البروتين الذي يتكون من عناصر بسيطة وهي الأحماض الأمينية. يرمزُ كل جين إلى بروتين معين. ترتيب الأحماض الأمينية الذي يتكون منه كل بروتين يحدده ترتيب النوكليوتيدات في الجين. إذا ما تغيّرت نيوكليوتيدة واحدة أو أكثر، قد يتغيّر الحمض الأميني في البروتين وقد لا يتمكن من أداء ذات الوظيفة العضوية كما كان. يحدث أحيانا أن تتغير نيوكليوتيدة في جين، فينتج عن ذلك مقدار أقل من البروتين أو ربما لا يُنتج أي بروتين على الإطلاق إذ ما استعصى على أجهزة الخلية التعرّف على الشفرة.
الوظيفة الثانية التي يؤديها جزء آخر من الجين (وهو أيضا عبارة عن سلسلة من النيوكليوتيدات) أنه أحد الأجهزة التي توقف إنتاج البروتينات وتبدؤه. بهذه الطريقة، وعلى الرغم من أن ذات الجينات موجودة في كل أجزاء الجسد طوال حياة الكائن الحيّ، نجد أن بعض البروتينات المتّصلة ببعض الجينات تُنتج في أوقات معيّنة وفي أماكن معيّنة من الجسد، ولا تُنتج في أوقات أخرى ولا في أجزاء أخرى، كما أن إيقاف وبدء إنتاج مركبات الجسم بذاته حسّاس للظروف الخارجية. مثلا إذا ما توّفر سكر اللاكتور للبكتيريا القَولونيّة E.coli فسيُرسل وجود السكر إشارة إلى الأجهزة البكتيرية لتصنع البروتين القادر على تكسير اللاكتوز واستخدامه كمصدرٍ للطاقة. الإشارة التي يبدأ معها تحويل شفرة الجين إلى بروتين يكتشفها جزء من الجين نفسه. وبذلك بتسلسل النيوكليوتيدات يُحدد نوع البروتينات التي سيصنعها الكائن الحيّ، كما أنها جزءٌ من أجهزة استشعار تتحكم بتصنيع تلك البروتينات ردًا على الظروف الخارجية. نظام الاستشعار هو الطريقة التي تتفاعل البيئة من خلالها مع الجينات لتصنع الكائن الحيّ.
بقِيَت وظيفة أخرى للجينات، وهي أنها نموذج تُصنع منه نسخ إضافية من ذواتها. عندما تنقسم الخلية وتُنتَج الحيوانات المنوية والبويضات، يكون لكل خلية نسخة كاملة من الجينات مطابقة تقريبا لجينات الخلايا القديمة. تلك الجينات المصنعّة تُنسخ مباشرة من جزيئات الجينات الموجودة مسبقا، وبما أنه لا توجد آلية مثالية للنسخ، تحدث أحيانا بعض الأخطاء، وهي ما تُسمّى الطفرات، لكن كقاعدة عامة: هذه تحدث مرة واحدة كل مليون نسخة.
يختلف هذا الوصف الذي ذكرته قبل قليل للجينات (أنها تحدد البروتينات التي يمكن للكائن الحيّ صناعتها، وأنها جزءٌ من نظام استشعار يستجيب للبيئة لبدء وإيقاف تصنيع البروتينات، وأنها نموذجٌ لتصنيع المزيد من النسخ) عن الوصف الذي يُقدّم عادة لهذه العلاقات. يُقال عادة أن الجينات تصنع البروتينات وأن الجينات تنسخ نفسها بنفسها. لكن لا يمكن للجينات أن تصنع شيئا، فالبروتين ينتجه نظام معقد للإنتاج الكيميائي تدخل فيه بروتينات أخرى، ويستخدم تسلسل النيوكليوتيدات في الجين ليُحدد المعادلة الدقيقة للبروتين الذي يُنتج. يُقال أحيانًا أن الجين هو "خطّة" البروتين أو مصدر "المعلومات" التي تحدد البروتين، وبذلك يُراد أن توضع له أهمية أكبر من بقية أجهزة التصنيع المجرّدة، لكن لا يمكن للبروتينات أن تُصنع إلا بتوفر أمرين: الجين، وبقية الأجهزة. ليس لأحدهما تفوقٌ على الآخر. عزل الجين بصفته "الجزيء الرئيس" هو التزام أيديولوجي آخر غير واعي، يضع العقل فوق العضلات، والعمل الذهني فوق العمل البدني، والمعلومات فوق الفعل.
كما أن الجينات لا تنسخ نفسها بنفسها. لا يمكن للجينات أن تصنع نفسها كما لا يمكنها أن تصنع البروتينات. تصنع أجهزة مُعقّدة الجينات وتتكون من بروتينات تستخدم الجينات كنماذج لإنشاء مزيد منها. عندما نقول أن الجينات تنسخ نفسها بنفسها فنحن نمنحها سلطة مبهمة مستقلة تبدو وكأنها فوق مواد الجسم العاديّة. بيد أنه إن أمكن القول بأن شيئًا ما في هذا العالم ينسخ نفسه بنفسه، فلن يكون الجين بل الكائن الحيّ كاملا كنظام معقد.
لمشروع الجينوم البشري خطّة طموحة إذ يُراد كتابة تسلسل النيوكليوتيدات التي تتكون من الحروف A و T و C و G لجميع جينات الإنسان. بالتقنيات المتوفرة الآن، هذا المشروع طموح للغاية وقد يستغرق إنجازه 30 سنة ويتطلّب عشرات أو ربما مئات مليارات الدولارات. بطبيعة الحالة، ثمّة دائما وعد بأن تقنية كفؤة ستصبح متوفّرة لتقليل مقدار العمل. لكن لماذا نريد أن نعرف التسلسل الكامل لكل أحرف A و T و C و G التي تتشكّل منها جميع جينات الإنسان؟
مفاد الدعوى أننا إن حزنا تسلسلا مرجعيًا لفردٍ طبيعي وقارنّا كل جزء من أجزائه مع شخص مصابٍ باضطراب ما، فسنتمكّن من تحديد الخلل الجينيّ الذي سبّب ذلك المرض. يمكن بعد ذلك أن نحوّل الشفرة الجينيّة المعدّلة في الشخص إلى بروتين معدّل لنعرف ما مشكلة البروتين، وقد نعرف حينها طريقة علاج المرض. بذلك: إذا كانت الأمراض سببها جينات معطوبة، وإذا أمكن لنا أن نعرف ما شكل الجين الطبيعي بأدق تفاصيله الجينيّة، سنتمكن من إصلاح وظائف الأعضاء غير الطبيعيّة. سنعرف ما هي البروتينات التي انفلتت في السرطان، وقد نتمكن من اختراع طريقة لإصلاحها. قد نتمكن أيضا من العثور على بروتينات معدّلة أو مفقودة في المصابين والمصابات بالفصام أو بالهوس الاكتئابي أو في المدمنين والمدمنات على الكحول أو المخدرات، وبالدواء المناسب، سيكون ممكنا إراحتهم من إعاقتهم المزعجة. علاوة على ذلك، إذا ما قارنا كل الجينات البشريّة بتفاصيلها الجزيئية مع جينات شيمبانزي مثلا أو غوريلا فسنتمكّن من معرفة الفرق بيننا وبين الشيمبانزي، أي أننا سنعرف ما يميّز الإنسان.
ما مشكلة هذه النظرة؟ أول خطأ تقع فيه أنها تفترض أن تسلسل الجينات البشريّة متشابه، والحقيقة أنه ثمة تفاوت هائل بين فرد طبيعي وآخر في تسلسل الأحماض الأمينية لبروتيناتهم لأنه قد يكون للبروتين أشكال مختلفة من الأحماض الأمينية دون أن تتعطل وظيفته. كل منا يحمل جينين لكل بروتين، أحدهما من الأم والآخر من الأب. معدّل الاختلاف في تسلسل الأحماض الأمينية بين الجينات الموروثة من الأم والجينات الموروثة من الأب يقع في جين واحد من بين 12 جين. علاوة على ذلك، وبسبب طبيعة شفرة الجينات، تحدث الكثير من التغييرات على مستوى الأحماض النووية دون أن تنعكس على البروتينات نفسها. ثمة تسلسلات مختلفة من الأحماض النووية ينتج عنها ذات البروتين. لا تتوفر تقديرات دقيقة للبشر حاليا، لكن إن كان البشر يشبهون الحيوانات المستخدمة في التجارب، فثمة اختلاف واحد بين كل 500 نيوكليوتيدة مأخوذة من الأحماض النووية لأي فردين عشوائيين. بحكم وجود حوالي 3 مليارات نيوكليوتيدة في جينات الإنسان، فأي إنسانين سيختلفان بمعدّل 600 ألف نيوكليوتيدة، وسيختلف الجين (الذي يبلغ معدّل طوله 3000 نيوكليوتيدة) بين أي فردين طبيعيين في حوالي 20 نيوكليوتيدة. إذا ما أخذنا هذا بعين الاعتبار، فجينوم من سيكون دليل الشخص الطبيعي؟
علاوة على ذلك يحمل كل شخص طبيعي عددًا كبيرًا من الجينات المعطوبة بجرعة واحدة موروثة من أحد الوالدين والتي تنوب عنها النسخة الطبيعيّة من الوالد الآخر. وبذلك فأي حمض نووي نعرف تسلسله سيكون فيه عدد من الجينات المعطوبة التي لا نعرفها. عندما نقارن الحمض النووي لشخص مريض بالحمض النووي الطبيعي المعياري سيكون مستحيلا أن نحدّد أي من الاختلافات العديدة بين الحمضين النووين مسؤول عن المرض. سيكون ضروريا أن ننظر إلى شريحة كبيرة من الأشخاص الطبيعين والمرضى لنعثر على الاختلافات المشتركة بينهم، لكن حتى هذا قد لا يحدث إذا ما كان المرض مناط البحث له أسباب جينيّة متعدّدة مما يجعل الناس يصابون بنفس المرض لأسباب مختلفة، حتى لو كانت كل تلك الأسباب نتيجة لاختلافات جينيّة. نعرف أن هذا ينطبق على أحد الأمراض البشريّة واسمه الثلاسيميا Thalassemia. يعتبر الثلاسيميا من أمراض الدم وفيه تكون كميّة الهيموغلوبين المُصنّعة أقل من الكميّة الطبيعيّة، وهو مرض يعاني منه الكثير من الآسيويين والأوروبيين من سكان حوض البحر الأبيض المتوسط. هذا النقص نتيجة عيوب مختلفة في أجزاء مختلفة من جين الهيموغلوبين وكل هذه العيوب ينتج عنها نقص في كميّة الهيموغلوبين المُنتجة. سيكون بحثنا عبثياً إن حاولنا العثور على نيوكليوتدة معيّنة يختلف المصابين والمصابات بالثلاسيميا بها عن الأشخاص الطبيعيين. في حالة الثلاسيميا أجريت أبحاث مكثفة على الشريحة المستهدفة إلى أن انكشفت القصّة، لكن حيازة التسلسل الطبيعي المعياري لم يكن له فائدة هنا، ولن تكون له أي فائدة في أي حالة أخرى.
المشكلة الثانية في مشروع الجينوم البشري أنه يدّعي أيضًا أننا إن عرفنا التركيبة الجزيئية لجيناتنا فسنعرف كل ما نحتاجه عن أنفسنا، فهو يعتبر أن الجين هو الذي يحدّد الفرد، وأن الفرد يحدّد المجتمع. تجده يعزل تغيّرًا في جين يُسمّى جينا سرطانيا ليجعله سبب السرطان، بينما قد يكون هذا التغيّر في الجين سببه ابتلاع مادة مُلوّثة، أنتجتها عملية صناعية، كانت بدورها النتيجة الحتميّة لاستثمار أراد أن تكون أرباحه ستة بالمئة. وهنا مرة أخرى تقودنا النظرة القاصرة للأسباب إلى اتجاه معين لعلاج مشكلاتنا، وهذه النظرة التي تخلط بين الأسباب والعوامل هي التي تمتاز بها أيديولوجيا علم الأحياء الحديثة.
لماذا إذا يريد عدد كبير جداً من العلماء والعالمات المتنفّذين المشهورين الناجحين الأذكياء أن يعرفوا تسلسل الجينوم البشري؟ جزء من الجواب يكمن في أنهم منغمسون في الأيديولوجيا التي تفترض أسبابا أحادية بسيطة لدرجة أنهم مؤمنون بجدوى البحث ولا يسألون أنفسهم أسئلة أعقد. لكن الجزء الآخر من الجواب مؤلم. إن المشاركة في مشروع بحثي تُصرَف عليه عدة مليارات ويمتد 30 إلى 50 سنة ويدخل فيه يوميا آلاف الفنيين والفنيات فكرة جذّابًة جدًا لكلِ من له طموحٌ من علماء الأحياء. ستُخلق سير عظيمة، وستُمنح جوائز نوبل، وستُعطى درجات فخرية، وستُسخّر إمكانات متقدّمة ومختبرات مهولة في يد من يتصرّفون بهذا المشروع ومن ينجحون في إنتاج آلاف الأقراص الحاسوبية التي تحتوي تسلسل الجينوم البشري. إدراك أنه ثمة عوائد اقتصاديّة ومناصب تنتظر من يشتركون في المشروع تسببّ في معارضة عنيفة داخل علم الأحياء ذاته قادها أشخاص يؤدون وظائف علميّة أخرى مختلفة حين رأوا أن مهنهم وأبحاثهم يهددها انحراف المال والطاقة والوعي العامّ؛ كما حذّر بعضهم، ممن له نظرةٌ ثاقبة من تبعات انكشاف الحقيقة للعامّة بعد اكتمال مشروع الجينوم البشري، إذ سيكتشف العامّة أنه ورغم الادعاءات الضخمة التي قدّمها علماء الأحياء الجزيئية، لا يزال الناس يموتون من السرطان وأمراض القلب والجلطة الدماغية، وأن دُور الرعاية لا تزال ممتلئة بالمصابين والمصابات بالفصام والهوس الاكتئابي، وأننا لم ننتصر في حربنا على المخدرات. الخوف الذي يجتاح الكثير من العلماء والعالمات أننا إن وعدنا بأكثر مما ينبغي فستتحطم صورة العلم لدى العامة وسيكون الناس شكاكين كأن يشكّون مثلا بجدوى حربنا على السرطان ناهيكم عن حربنا على الفقر.
لا ينخرط العلماء والعالمات الباحثون في هذا الصراع بصفتهم أكاديميين فحسب؛ إذ ثمة نسبة كبيرة منهم أساتذةٌ في الجامعات يشغلون أيضا مناصب علميّة رئيسية في شركات التقنية الحيوية وبعضهم يمتلك حصصًا كبيرة من أسهمها. بالنّسبة لرأس المال الجريء تعتبر التقنية مجالا صناعيًا رئيسيًا ومصدرًا رئيسيًا للربح. ما دام مشروع الجينوم البشري ينتج تقنيات جديدة على نفقة الأموال العامة، فهو يقدّم أدوات قوية لشركات التقنية الحيوية تمكّنها من إنتاج سلع تُباع في السوق. علاوة على ذلك، سيمنح نجاح المشروع إيمانا أكبر بقدرة التقنية الحيويّة على إنتاج منتجات مفيدة.
لكن شركات التقنيات الحيويّة ليست وحدها التي تنتج سلعًا تستند بشدّة على مشروع الجينوم البشري؛ فالمشروع سيستهلك مقداراً ضخما من السلع الكيميائية والميكانيكية. ثمة أجهزة تجارية تنتج الأحماض النووية من عيّنات ضئيلة، وثمّة أجهزة تكشف تسلسل الأحماض الأمينية آليا. تتطلّب هذه الأجهزة مواداً كيميائية عديدة كلها تباع لتعود بأرباح طائلة للشركات التي تصنع تلك الأجهزة. يُعتبر مشروع الجينوم البشري فرصة تجارية ضخمة، وستؤول نسبة كبيرة من المليارات التي تُصرَف عليه إلى العوائد السنوية لتلك الشركات المنتجة.
يظهر لنا في مشروع الجينوم البشري جانب من علم الأحياء يندر أن يُناقش ولعله أكثر الجوانب إبهاما. إن الاكتشافات التي يُقال أنها مفصلية عن أسس الحياة تختبئ خلفها علاقات تجارية بسيطة توجّه الأبحاث وتحدّد مجالها. أفضل الأمثلة المُوثّقة على أن المصالح التجارية تدفع ما يُقال أنه اكتشاف عن أسس الطبيعة نجده في الزراعة. يُقال دائما أن اختراع الذرة المهجّنة تسبّب بزيادة هائلة في محاصيل الزراعة، مما نتج عنه تغذية مئات ملايين الأشخاص بتكلفة قليلة وكفاءة عالية. كان الفدّان العادي المزروع بالذرة في "حزام الذرة" في أمريكا الشمالية يُنتج 35 بوشل[2] لكل فدّان، بينما اليوم يُنتج 125 بوشل. يعتبر كثيرون ذلك أحد أكبر تجليّات تطبيق أسس علم الجينات لصالح الرفاه البشري؛ لكن الحقيقة أشدّ إثارة.
تُنتَج الذرة المهجّنة بتلقيح نوعين صافيين من الذرة وزراعة البذور الناتجة عن هذا التلقيح. تلك الأنواع الصافية تُنتج بعملية طويلة من التلقيح الذاتي حتى يصبح كل نوع مُوحّدًا جينيًا. تمضي شركات البذور عددًا معينًا من السنوات في التلقيح الذاتي لسلالات من الذرة حتى تحصل على سلالات مُوحّدة ثم تبيع على المزارعين والمزارعات البذور التي تنتج عن تلقيح نوعين من هذه السلالات. تلقيح كل سلالة متجانسة مع نفسها ينتج عنه محصول رديء، بينما يتفوّق النوع المُهجّن في الإنتاجية على السلالاتين الصافيتين من جهة وعلى الذرة الأصلية التي كان تلقيحها مفتوحا والتي جاءت منها السلالة الصافية. لا يكون تهجين أي سلالتين متجانستين صافيتين من الذرة ذا محصول عالٍ بالضرورة، بل يتوجّب البحث في الكثير من السلالات المتجانسة الصافية للعثور على الزوجين الذين سيقومان بالمهمّة.
يمتاز التلقيح المهُجّن بين السلالتين الصافيتين أيضا بصفة أخرى يندر الحديث عنها وهي ذات قيمة تجارية عالية. لنفترض أن لمُزارِعٍ نوعٌ من الذرة ذا محصول عالٍ ويقاوم الأمراض ومخرجاته التجارية (إذا ما قُورنت بتكلفة المُدخلات) عالية. الطريقة المتوقّعة لاستمرار تجارته ستكون في أن يوفّر بعض البذور من هذا النوع ذا المحصول العالي ليزرعه في السنة القادمة ليجني محصولاً عالياً مرة أخرى. عندما يحصل المزارع على بذور هذا النوع الرائع، لا حاجة لأن يدفع مرة أخرى ليحصل عليه مجددًا لأن النباتات كغيرها من الكائنات الحيّة تتكاثر بنفسها. لكن هذا التكاثر الذاتي يشكل مشكلة حقيقيّة لمن يريد جني المال بتطوير أنواع جديدة من الكائنات الحيّة، إذ كيف له أن يجني المال في اللحظة التي باع فيها البذور إذا كان الإنتاج المستقبلي بيد من اشتراها؟ سيتسنّى له أن يبيعها مرة واحدة فقط، ثم ستنتشر في كل مكان بلا مقابل.
مشكلة حماية النسخ هذه حاضرة أيضا في برامج الحاسوب. لن تقبل مطوّرة برامج الكمبيوتر أن تكرس الوقت والطاقة والمال في تطوير برنامج جديد إذا ما تمكّن المشترون والمشتريات الأوائل من نسخه وتوزيعه على أصدقائهم وصديقاتهم بلا تكلفة تذكر. لطالما كانت هذه هي مشكلة تلقيح النباتات والحيوانات. لا يمكن لملقحي النباتات ومنتجي البذور أن يجنوا الكثير من المال لأن المزارعين والمزارعات بمجرّد أن يشتروا نوعا من أنواع البذور أو الحيوانات سينتجون أجيالا مستقبلية بأنفسهم. صحيح أن البذور التي تُنتج في المزرعة قد تحتوي قدراً معيناً من البذور المتطفلة، وإنتاجها قد لا يكون مثاليًا للإنبات، ولذا قد نجد المزارعين والمزارعات يعودون أحيانا إلى من أنتج البذور ليحصلوا منهم على كميّة جديدة، ففي فرنسا مثلا يعود زارعو القمح العاديين مرة كل ستة سنوات ليكملوا نقص بذور القمح.
بيد أن الذرة المهجّنة مختلفةٌ، لأنها تُنتج بتلقيح سلالتين صافيتين متجانستين، ولا يمكن زراعة بذور الذرة المهجّنة للحصول على ذرة مهجّنة، إذ أن ما هو مهجّن ليس صافيًا، والبذور التي تنتجها الذرة المهجّنة ليست بذاتها مهجّنة بل هي شريحة تتراوح فيها درجات التهجين وهي خليط من أنواع متجانسة ومتغايرة. ستخسر المزارعة التي توفّر بعض البذور من الذرة المهجّنة لتزرعها في السنة القادمة ما لا يقل عن 30 بوشل لكل فدّان في المحصول القادم. يتعيّن على المزارعين والمزارعات العودة كل سنة لشراء البذور من جديد للحفاظ على ذات المحصول العالي، وبذلك يكون منتجو بذور الذرة المهجّنة قد عثروا على طريقة للحماية من النسخ. علاوة على ذلك يمكن لمنتجي ومنتجَات البذور المهجّنة أن يجعلوا قيمة بذورهم تساوي القيمة التي كانت ستخسرها المزارعة لو لم تعد إلى الشركة لتحصل على مزيد من البذور المُهجّنة، أي أن تكون قيمتها تساوي القيمة السوقية لـ 30 بوشل لكل فدّان. الحقيقة أن اختراع الذرة المهجّنة كان استخداما مُتعمّدًا لمبادئ علم الجينات لخلق منتج عصيّ على النسخ. دليلنا على ذلك أفضل دليل، وهما مخترعا الذرة المهجّنة نفسيهما، إذ كتب شُل وإيست Shull and East أن النباتات المهجّنة:
"شيء يمكن لبائعي البذور أن يتبنوه؛ إذ أنه وللمرة الأولى في التاريخ الزراعي يمكن لبائعي البذور أن يجنوا الفائدة الكاملة مما ابتكروه بأنفسهم ومما اشتروه. الرجل الذي يبتكر نوعا جديدا من النباتات والذي قد تكون فائدته لا تحصى على البلد بأكمله لم يكن يجني شيئًا (ولا حتى الشهرة) رغم المشاق التي تكبّدها، إذ يمكن للجميع أن ينشر النبتة. يتيح تسخير أول جيل من النباتات المهجّنة لمبتكرها الاحتفاظ بالأنواع الأصلية وأن يوزّع البذور المُلقّحة فقط، والتي هي ذات قيمة أقل بكثير للنشر المستمر".
بعد إدراك أن أسلوب التهجين يمكن أن يضمن لمن اخترعه أرباحا طائلة، أدخل التهجين لكل أجزاء الزراعة. شهد الدجاج والطماطم والخنازير بل كل نبتة تجارية أو حيوان تجاري نمواً في الأنواع المهجّنة على حساب الأنواع القديمة. استثمرت شركات البذور الكبرى مثل شركة البذور المهجّنة الرائدة ( Pioneer Hybrid Seed Company) ملايين الدولارات في محاولةٍ منها لإنتاج قمح مُهجّن لتستحوذ على سوق لم يُستهدف حتى الآن. لم ينجحوا في ذلك حتى الآن، وذلك لأن تكلفة إنتاج البذور المهجّنة مفرطة.
كانت شركة البذور المهجّنة الرائدة نفسها نتيجة نشاطات رمز سياسي وعلمي مهم، هو هنري والس Henry A. Wallace. عُيّن والد والس وزيرا للزراعة في عهد الرئيس الأمريكي وارن هاردينغ Warren Harding في عام 1920. أرسل والد والس ابنه هنري في جولة تخللها عدة محطات للتجارب الزراعية. نصح هنري والده بأن يُعيّن لتلقيح النباتات رجلا كان قد كرّس حياته للتهجين. في هذه الأثناء كان هنري نفسه يجري تجاربًا في التهجين، وفي عام 1924 باع أول بذوره المهجّنة بربح بلغ 740 دولار لكل فدّان، وفي عام 1926 أسّس شركة البذور المهجّنة الرائدة، ولما عيّنه الرئيس فراكلن روزفلت Franklin Roosevelt في عام 1932 وزيرا للزراعة لم يعد ممكنا مقاومة الضغوط لإدخال الذرة المُهجّنة إلى الولايات المتحدة ومنها إلى كندا.
إذا كانت الذرة المهجّنة فعلا طريقة أفضل للإنتاج الزراعي فستكون فائدتها التجارية لشركات البذور مسألة ثانوية؛ لكن السؤال: هل توجد طرق أخرى لتلقيح النباتات كانت ستنجح أيضا أو ربما بشكل أفضل دون أن يكون لشركات البذور حماية لحقوق الملكية؟ الإجابة على هذا السؤال تتوقف على عدة مشكلات في علم الجينات لم تكن حُسمت في بدايات تاريخ الذرة المهجّنة، وحتى قبل 30 سنة كان يمكن أن يُقال أن فهمنا للأسس البيولوجيّة لإنتاج الذرة يقودنا لأن نقول أن النباتات المهجّنة وحدها ستمنحنا المحصول الإضافي؛ لكننا نعرف الحقيقة طوال الثلاثين سنة الماضية وأجريت الاختبارات الأساسيّة ولم يعد أحد من ملقّحي النباتات يختلف بشأنها. إن طبيعة الجينات المؤثرة على محصول الذرة تجعل الطريقة الأخرى ممكنة، وهي ببساطة: انتخاب النباتات ذات المحصول العالي في كل جيل ثم نشر بذور كل واحدة من هذه النباتات. بطريقة الانتخاب هذه، يمكن لملقّحي البذور أن ينتجوا أنواعًا من الذرة محصولها نفس محصول النباتات المهجّنة الحديثة، المشكلة أنه لا يوجد ملقحين للنباتات يقومون باستكشاف هذا المجال وتطويره لأنهم لن يجنوا مالا من ذلك.
إحدى أكثر سمات هذه القصّة إثارة للاهتمام هو دور محطّات التجارب الزراعية مثل محطّات التجارب الزراعية للولايات في الولايات المتحدة الأمريكية وزارة الزراعة الكندية. قد نظنّ أن هذه المؤسسات ستُطوّر طرقا بديلة لأن الربح لا يعنيها، ولأنها تعمل بأموال عامّة؛ لكن رغم ذلك فوزارتا الزراعة الأمريكية والكندية كلاهما من أشدّ المؤيدين لطريقة التهجين. هذه المصلحة التجارية البحتة نجحت ببراعة في أن تتلبس بادعاءات علميّة محضة حتى صارت هذه الادعاءات تدرس عقيدة علميّة في كلّيات الزراعة. لا تزال أجيال من الباحثين والباحثات في الزراعة حتى من يعمل منهم في مؤسسات عمومية يعتقد أن النباتات المُهجّنة بطبيعتها أفضل رغم أن نتائج التجارب التي تتعارض مع ذلك تنشر في مجلات معروفة طوال الـ 30 سنة الماضية. وهنا مجددًا، يتجلى لنا أن الغطاء المبهم من العلم المجرّد والمعرفة الموضوعيّة للطبيعة ليس في حقيقته سوى أيديولوجيا سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة.