هذا هو الجزء الخامس من سلسة محاضرات "البيولوجيا حين تكون أيديولوجيا" لريتشارد لوينتون، ترجم هذا العمل أسامة خالد وفهد القبّاع، وسجّله صوتًا فهد القبّاع. ويمكنك إضافة السلسلة إلى البرنامج الذي تُفضّل لسماع الإذاعات من هذا الرابط.

تناولت جميع الأجزاء السابقة إحدى التحيّزات الأيديولوجية الموجودة في علم الأحياء الحديث. يرى هذا التحيّز أن كل شيءٍ فينا مكتوب في أحماضنا النووية DNA، من مرضنا وصحتنا، غنانا وفقرنا، حتى بنية المجتمع الذي نعيش فيه. يشبهنا ريتشارد دوكنز Richarcd Dawkins بالروبوتات الخرقاء التي شكلتها الأحماض النووية جسدًا وعقلًا. تأتي هذه النظرة- التي ترانا تحت رحمة قوى موجودة فينا منذ ولادتنا- من التزام أيديولوجي عميق تجاه حركة تسمى "الاختزالية - Reductionism". نعني بالاختزالية الاعتقاد أن العالم مفتت على شكل قطع بالغة الصغر، لكل قطعة خصائص تميّزها، وإذا جُمعت معا تصنع أشياء أكبر. الفرد -مثلاً- يصنع المجتمع، فالمجتمع -وفق النظرة الاختزالية- ما هو إلا تمظهرُ لخصال الأفراد فيه. هذه النظرة الفردية للعالم -من منظور بيولوجي- هي أصلا انعكاس لأيديولوجيا ظهرت نتيجة الثورات البروجوازية في القرن الثامن عشر، حيث وضعت الفرد مركزًا لكل شيء.

لا تؤدي مثل هذه النظرة إلى تصديق أن القوى الداخلية -التي لا نتحكم بها- هي ما تشكل ما نحن عليه كأفراد فحسب. بل تجعل العالم الخارجي (بقطعه الصغيرة التي تشكله وقوانينه) مكانًا نعيش فيه كأفراد دون أن يكون لنا تأثير عليه. كما أن الجينات داخلنا بالكامل، فالبيئة (العالم الخارجي) خارجنا بالكامل كذلك، ونحن في هذا مجرّد ممثلين تحت رحمة هذه القوى. يؤدي هذا للثنائية الخاطئة: الطبيعة/التنشئة Nature/nurture. فمقابل الفريق الذي يرى أن قدرتنا على حل المشكلات وذكاؤنا أمرٌ تحدده جيناتنا، فريق آخر يرى أن هذه الأشياء تحددها البيئة التي عشنا بها. يظهر من هذا صراعٌ دائم بين من يؤمن بأولويّة الطبيعة وبين من يرى أولويّة التنشئة.

يعود دور هذا الفصل بين الاثنين (بين الكائن وبيئته) لتشارلز داروين، الذي جعل علم الأحياء يُرى من منظور العالم الميكانيكي الحديث. فقبل داروين كانت النظرة العامة ترى أن ما في الداخل والخارج جزء من نظام واحد يؤثر كل واحدٍ منهما على الآخر. على سبيل المثال، كانت أشهر نظريّةٍ للتطوّر قبل داروين نظريّة جان باتيست لامارك[1] Jean Baptiste Lamarck الذي قال بإمكانية توريث الصفات المكتسبة. التغيرات التي تحدث في البيئة تسبب تغييراتٍ في جسد الكائن الحي وسلوكه، هذه التغيرات، بالنسبة للامارك، تنفذ للبنية الوراثية للكائن، وعليه تنقل للجيل التالي. لا شيء وفق هذه النظرة يفصل بين العالمين الداخلي والخارجي، فالتبدلات في الخارج تنفذ للداخل وتُخلّد فيه وتُورّث لأجيال المستقبل.

رفض داروين هذه النظرة بشدّة واستبدلها بأخرى يكون الكائن والبيئة فيها معزولين تمامًا. يستقل العالم الخارجي وحده بقوانينه وآلياته الخاصة التي تُشغّله. وعلى الكائنات الحية مجابهة هذا العالم وخوض غماره، فإما أن تنجح في التكيف معه أو تفشل. قانون الحياة بالنسبة لداورين هو "إما أن تتكيف أو تموت". ستنجوا الكائنات التي تُمكّنها خصائصها من مواجهة صعاب العالم الخارجي والتكيف معه، وستنجب نسلاً لتستمر، في حين سيفشل من لا يملك هذا وينقرض. تتغير الأنواع، ليس لأن تأثيرًا بيئيّا أحدث التغيير في جسد الكائن مباشرةً، بل لأن الكائنات التي سمح لها ذكاؤها أن تتعامل مع مصاعب الطبيعة ستنجو لتترك نسلاً أكثر، نسلًا يشبهها. نقطة الداروينية العميقة كانت هذا الفصل بين البيئة وقواها التي تصنع العراقيل والصعاب أمام الكائن الحي، وقواه الداخلية التي تبحث عن حلول لها. وعند تقديم حلٍّ صحيح (من الكائن)، سيجنو لأنه كان محظوظًا بما يكفي ليجد توافقًا بين ما يحدث داخله وخارجه.

كانت نظرة داروين أساسيّةً لنا حتى نكتشف التطوّر ونتتبّع خيوطه بنجاح، فلامارك كان ببساطة مخطئًا في نظرته لتأثير البيئة على الوراثة، وكان عزل داروين للكائن الحي عن البيئة خطوةً أولى ضرورية لنصِف بشكل صحيح الطريقة التي تتفاعل فيها قوى الطبيعة مع بعضها البعض. الإشكال أن هذه كانت مجرّد خطوةً أولى، لكننا توقفنا عندها ولم نتحرك، والتزم علم الأحياء الحديث بالكامل لهذه النظرة التي ترى أن الكائنات ما هي إلا ساحة تتعارك فيها هذه القوى الداخلية والخارجية. هذه الكائنات ما هي إلا نتائج بليدة غير فاعلة لتلك النشاطات التي تقع خارج نطاق تأثيرها وتحكمها. لهذه النظرة أصداء سياسيّة مهمة، فهي تُلمِح أن العالم خارج عن سيطرتنا وأن علينا أن نقبله كما وجدناه، ويجب أن نبذل قصارى جهدنا لنعبر هذه الحياة المُلغّمة متماسكين، مستخدمين ما زودته لنا جيناتنا من أدوات تساعدنا على ذلك.

المُلفت جدًا في هذه النظرة (نظرة أن البيئة الخارجية صنعتها الطبيعة لنا ولا يمكن لنا تغييرها بشكل حقيقي إلا حين ندمرها ونربك التوازن الدقيق الحساس الذي أوجدته الطبيعة قبل وجودنا) أن ذلك يتناقض تمامًا مع ما نعرفه عن البيئة وعن الكائنات الحية. حين نحرّر أنفسنا من هذا التحيّز الفكري تجاه الاختزالية وننظر بشكل مباشر في العلاقات الفعلية بين الكائنات والعالم من حولها، سنجد علاقات أكثر ثراءً، علاقات تحتّم تبعات مختلفة تماماً فيما يخص التصرف السياسي والاجتماعي الذي تقترحه مثلا حركة البيئة.

كما لا يوجد كائن حي دون بيئته، لا توجد بيئة دون كائنها الحيّ. لا توجد "بيئة" بالمعنى المجرّد وحده. لأن الكائنات لا تخوض غمار البيئة، بل هي من تصنعها. فهي عبر نشاطاتها وحياتها، تجمع أجزاء العالم الماديّ الصغيرة، وتصنع بيئتها منها. هل يعد حصى حديقتي وعشبها جزءًا من بيئة الطيور؟ إن العشب بلا شك جزءٌ من بيئة طائر الفويب الذي يبحث عن الجاف منه ليصنع عُشّه، أما الحجارة فلا. لكن الحجارة، من ناحية أخرى، جزءُ من بيئة طائر السمنة، فهو يحتاجها حين يصطاد حلزونًا ليكسر صدفته. أما نقار الخشب الذي يقضي حياته داخل فتحةٍ ثقبها في شجرة، فهو لا يحتاج لا للحجارة ولا للعشب. تدخل أجزاء العالم الصغيرة في الخارج إلى عالم الطائر وتصبح ذات صلة به حسب حاجته لها في حياته. حين يُستخدم العشب في صناعة العش، فالعشب عندئذٍ جزءٌ من البيئة. وإذا اُستخدم الحصى لكسر الصدف، فالحصى عندئذٍ جزء من البيئة.

إن الأوجه التي يمكن فيها تشكيل بيئةً ما أوجهٌ لا تحصى، وبالتالي، الطريقة الوحيدة لمعرفة بيئة كائن ما هي عبر مراقبة الكائن نفسه. بل وعلينا إلى جانب هذا أن نصف البيئة في إطار أنشطة هذا الكائن وسلوكه. لو كنّا في شك من هذا، فلنجرب أن نطلب من عالم بيئة أو عالمة بيئة أن يصفا بيئة طائر ما. سيكون جوابهما كالتالي: "حسنًا، يبني الطائر عشّه من خشبٍ صلب على ارتفاع متر واحد. وهو يتغذى على الحشرات معظم العام، لكنه قد يستيعض عنها بالبذور والمكسرات إن لم تتوفر له. يطير شتاءً للجنوب، ويعود صيفًا للشمال. ويميل للبقاء على أطراف أغصان الأشجار العالية حين يبحث عن طعامه" وهكذا. كل كلمة يقولانها في وصف بيئة الطائر ستصف أنشطة الطائر ذاته. إذ يعكس الوصف حقيقة أنهما اكتشفا بيئة الطائر بمشاهدة بقية الطيور.

تعد حالة مسبار المريخ Mars Lander إثباتًا عمليًا لصعوبة وصف أي بيئة دون كائنٍ يُعرّفها ويُحدّد وجودها، فعندما قرّرت الولايات المتحدة إرسال مركبةٍ لتهبط على المريخ، ودّ علماء الأحياء معرفة ما إن كان ثمة حياة على سطح ذلك الكوكب. وقد كان عليهم تصميم آلة تستطيع الكشف عن ذلك. ظهرت إثر هذا عدة اقتراحات مثيرة. أحدها كان إرسال مايكروسكوب بذراعٍ طويلة دبقة يوضع على سطح الكوكب ثم يُفصح ما التقطه الذراع، أياً يكًُن. لو وُجد أي شيء يشبه كائنًا حيًا، سنراه في الصور المرسلة للأرض. يمكن تعريف الحياة هنا بشكلها. فلو بدت العينة مناسبةً وأخذت تهتز، فسنعتبرها حية.

لكن الاختيار وقع على أسلوبٍ أعقد من هذا. فبدلًا من سؤال: هل يبدو ما نجده على سطح المريخ حيًا؟ سيكون السؤال: هل يملك ما نجده تفاعلات التمثيل الغذائي Metabolism الموجودة في الكائنات الحية؟ وعليه، احتوت المركبة المرسلة على أنبوب موصول بمنظف مفرَّغ يوجد بداخله مستنبت مشع Radioactive growth medium. ستمتصّ المركبة، عند هبوطها على المريخ، عينة من التربة وترسلها للمستنبت، لو احتوت العينة على كائن حي، فسيستهلك المواد الموجودة داخل المستنبت وسينمو كما تنمو أي بكتيريا على الأرض. سيُنتج هذا غاز ثاني أكسيد الكربون المشعّ، وسيكشف وجوده جهازٌ كاشف مثبّت وسيرسل إشارةً بوجود الغاز إن أنتج. وهذا ماحدث بالضبط. فحين امتصت المركبة عينة التربة، أُنتج منها غاز ثاني أكسيد الكربون المشعّ بأسلوب أقنع الجميع بوجود حياة على سطح المريخ، حياة تستطيع تخمير Fermentation مافي المستنبت. لكن هذا لم يدم طويلاً، إذ توقف كله بشكل مفاجئ. وهذا ليس ما يفعله الكائن الحي عادةً. أدت هذه النتيجة لحيرة علميّة، ونقاشٍ بين العلماء المعنيين بالتجربة كانت نتيجته عدم وجود حياة على المريخ. وُضع افتراض بديل يرى وجود تفاعلٍ كيميائي حَفّزَت فيه جزيئات التربة باقي الجزيئات، وأن تلك الجزيئات ليست مما نجده على الأرض عادةً. تم في وقت لاحق محاكاة هذا التفاعل بنجاح داخل المختبر، وهو ما جعل الجميع يتّفق على صحة ما قرّروه: نعم، لا توجد حياة على المريخ.

تكمن المشكلة في هذه التجربة تحديدا أن الكائنات الحية تحدد بيئتها بنفسها. هل توجد حياة على المريخ؟ لنعرف هذا لابد أن نقدّم للحياة المريخية بيئةً ما ثم نرى إن استطاعت النمو فيها. لكن كيف نتمكن من معرفة بيئة الحياة المريخية إن لم نرَ كائنًا مريخيًا من قبل؟ كل ما أظهرته تجربة مركبة المريخ الآنفة هو عدم وجود حياة بكتيرية على المريخ تشبه تلك الموجودة على الأرض. قد نعرف عن المريخ درجة حرارته، ورطوبته، ومكونات الغاز في غلافه الجوي، بل وحتى شيئا مما يكوّن تربته، لكننا لا نعرف كيف تبدو بيئته، لأن البيئة لا تتألف من أي من هذا، بل تتألف من مجموعة علاقات منظّمة بين الأجزاء الصغيرة. علاقاتٌ شكلها الكائن المريخي ونظمها بنفسه.

ينبغي علينا استبدال النظرة التكيُفيّة للحياة بأخرى بنائيّة. إن الكائنات لا تجد البيئات معدة وجاهزة لها وأن عليها أن تتكيف معها أو تموت، بل هي من يشكّلها في الحقيقة من تلك القطع والأجزاء .بناءً على ذلك فبيئة الكائن مخزنةٌ في حمضه النووي. هذا يجعلنا في وضع معاكس للنظرة اللاماركية: فحين افترض لامارك أن التغيرات في البيئة ستؤدي لتغيّر في بنية الكائن، نرى الآن أن العكس هو الصحيح. فكما تؤثر جينات الكائن إلى حدٍّ ما في شكله ووظيفته وسلوكه، نجدها تساعده في الوقت ذاته ليشكّل بيئته. لذا، فحين يُغيّر التطوّر جينات الكائن، فإن بيئته تتغيّر معه كذلك.

تأمل، مثلاً، البيئة المباشرة لكائن بشري. لو التقطت مجموعة صور لنا، مستخدمًا عدسةً منعرجة schlieren optics تقيس فرق معامل انكسار الهواء refractive index، فسترى طبقة هواء رطبة تحيط كل واحدٍ منا بالكامل من أخمص القدم وحتى أعلى الرأس؛ بل الحقيقة أن جميع الكائنات الحية -حتى الأشجار- لها هذه الطبقة العازلة من الهواء الدافئ الذي تبعثه عمليات التمثيل الغذائي Metabolism داخل ذلك الكائن. أحد نتائج هذه الطبقة هو ما نشعر به من برد حين تمر ريحٌ قويّة عكسنا، وسبب شعورنا بالبرد هو أن الرياح تطرد هذه الطبقة فتصبح جلودنا معرّضة لدرجات حرارة مختلفة، تشعرنا بالبرد. يسمى هذا "معامل تبريد الرياح" Wind chill factor. لو نظرنا لبعوضة وهي تتغذى من جلد إنسان، فسنراها مغمورة بالكامل داخل تلك الطبقة. وستجد نفسها تعيش في عالمٍ رطب ودافئ. مع ذلك، فالتغيّر في الحجم يُعدّ أحد أكثر التغيرات التطوّريّة شيوعًا، ونجد بشكل متكرر كائناتٍ تطوّرت لتصبح أكبر حجمًا. فلو حدث وتطوّر البعوض وكبر حجمه، سيجد نفسه خارج تلك الطبقة، ولن يتبقَ إلا جزء من ساقه فيها، بينما بقية جسده في طبقة " الغلاف الزمهريري"[2]. يعني ذلك أن تطوّر البعوض سيضعه في عالمٍ مختلفٍ تمامًا. ثمة مثال آخر لذلك، فحين خسر البشر الشعر الكثيف حول أجسادهم خلال مسيرة تطوّرهم، تقلص سمك هذه الطبقة الدافئة التي تحيط بهم، وتغيّر بالتالي حجم هذا العالم الصغير ولم يعد مأوىً صالحًا لمن كان يعيش فيه، كالبراغيث والقمل والبعوض وبعض الطفيليات التي تعيش على ظهر الكائنات كثيفة الشعر. إن القاعدة الأولى حول العلاقة الحقيقيّة بين الكائن وبيئته هي أن البيئة غير موجودة دون الكائنات، وأن الكائنات هي من تُشيّدها مستخدمةً ما في العالم الخارجي من أجزاء وقطع.

أما القاعدة الثانية، فتقول: أن بيئة كل كائن تتغيّر باستمرار أثناء حياة ذلك الكائن. فحين تغرس النباتات جذورها للأسفل، فهي تغيّر الطبيعة الماديّة للتربة التي غرست جذورها فيها. فحين تفعل ذلك، تُهوّي المكان، وتُصبّ مادة حمض الهيوميك العضوية humic acids، التي تغير الطبيعة الكيميائية للتربة كذلك، وتجعل التربة مكانًا مناسبًا لتعيش فيه أنواعٌ مختلفةٌ من الفطريّات المفيدة لتعيش مع النبات وتدخل في صلب نظام جذوره. الأوراق العليا تغير مثلاً كميّة الضوء التي ستصل لتلك السفلى، وهكذا. لذا، فمن هم في وزارة الزراعة الكندية لا يقيسون حالة الطقس -إن أرادوا أن يقيسوه لغايةٍ زراعية- عبر وضع محطة القياس في حقل مفتوح أو فوق سطح مبنى، بل يقيسون درجة الحرارة والرطوبة على مستويات مختلفة في حقلٍ نباتات نامية، ذلك لأن النباتات تغيّر باستمرار حالة البيئة التي تهم المشتغلين بالزراعة. إن كل كائن يغيّر بيئته، الخلد يحفر مأواه، وسماد ديدان الأرض يغير تمامًا بنية التربة، بل قد كان للقندس في أمريكا الشمالية أثرٌ مهمٌّ في الطبيعة مساوٍ لأثر البشر، حتى أوائل القرن الماضي. أما أنت أو أنتِ، فأنفاسكما تسحب الأوكسجين من البيئة وتعطيها غاز ثاني أوكسيد الكربون.

قال مورت ساهل Mort Sahl ذات مرة: "بغض النظر عن السوء والشر الذي قد تكون عليه. تذكر أنك تسعد وردةً.. في كل مرة تتنفس فيها".

يُغيّر كل كائنٍ حي بشكل مستمر المكان الذي يعيش فيه حين يستهلك منه موادًا معيّنة ويذر أخرى. كل حالة استهلاك هي في ذاتها حالة إنتاج، والعكس صحيح. فنحن حين نستهلك الطعام، ننتج في المقابل مخلفات يستهلكها كائن آخر.

ينتج عن هذا التغيّر البيئي المستمر الذي تسببه نشاطات مختلف الكائنات، أن كل كائنٍ ينتج ويمحي ظروف وجوده في ذات الوقت. ثمة حديث طويل حول التدمير الذي نحدثه كبشر للبيئة. لكننا، رغم ذلك، لسنا وحدنا في ذلك، فالحقيقة أن نشاطات كل الكائنات تجعل العالم معاديًا لاستمرار عيشها فيه. تستهلك البكتيريا مثلاً الطعام الموجود حولها وتفرز في المقابل مواد سامّة مضرة بها. لا يؤثر التخريب فقط على حياة تلك الكائنات وحسب، بل يستمر ليؤثر في نسلها من بعدها.

تُعدّ الطبيعة النباتية لولاية نيوإنجلاند شاهدًا حيًا لهذه العملية. إذ احتوت غاباتها البدائية خليطًا من أشجار مختلفة كالصنوبر والشوكران الأمر الذي تغيّر مع انتشار الزراعة نهاية القرن الثامن عشر حين قُطعت جميع هذه الغابات لتأتي المزارع محلها. لم يستمر هذا طويلاً، فبعد الحرب الأهلية بدأت هجرة جماعية من نيوإنجلاند نحو الغرب الأوسط في أمريكا. هُجرت المزارع نتيجةً لهذا، ومع هذا بدأت النباتات بالتسلل. تسللت أولاً مجموعة متنوّعة من الحشائش والأعشاب، لكنها استبدلت بعدها بالصنوبر الأبيض. تمكّنت أشجار الصنوبر الجديدة من الوقوف وحدها، كان يمكن رؤية كثير منها في أوائل هذا القرن. لكن هذا لم يدم. حيث نمت أشجار الصنوبر بشكل كثيفٍ يمنع نمو أي شجرة صنوبر جديدة لتحل محل من يبلى من تلك القديمة. بدأت أشجار الصنوبر بالاختفاء، وبهذا أتت الأشجار الصلبة التي كانت في انتظار مساحةً فارغة تغزوها. اختفى الصنوبر بعدها للأبد إلا من شجرة قديمة تراها هنا أو هناك. هذا التتابع، بين الصنوبر والشجر الصلب، ما هو إلا نتيجة التغيّر الذي أحدثته أشجار الصنوبر في التربة والضوء بدرجةٍ لم يستطع معها نسلها النجاة. إن هذه الفجوة بين الأجيال، بين الجيل السابق واللاحق، ليست ظاهرة خاصة بالبشر وحدهم.

يجب علينا بالتالي أن نتخلص من الرأي القائل أن العالم مكانٌ ثابت ومستقر وأن البشر وحدهم من يخرّبه ويدمّره. نحن نغيره، لا شك، شأننا شأن بقية الكائنات التي تفعل الأمر ذاته. لكننا كذلك نملك قوّة لا يملكها غيرنا، قوةً تمكننا إما من إحداث التغيير في البيئة بشكل سريع جدًا، أو من تطويعها بأساليب متنوّعة نراها مفيدًة لنا. نحن، مهما يكن، لا نستطيع العيش دون تغيير البيئة. هذه هي القاعدة الثانية في العلاقة بين الكائن وبيئته.

القاعدة الثالثة أن الكائنات الحيّة تتصرّف ببيئتها إحصائيًا (في الأمور التي تمسّها على الأقل). هذا يعني أن الكائنات الحيّة تُوزّع العوامل الماديّة بالتساوي كي تلغي التذبذات المُشاهدة في مختلف الأوقات. إحدى الأمثلة المهمة على ذلك هي تخزين الحيوانات والنباتات ضوء الشمس. لا تتوفر ظروف النمو والتغذية الجيّدة طوال السنة في كل المناطق المناخية، لكن ليس المزارعون والمزارعات وحدهم من يأنس بوجود الشمس، فالبطاطا مثلا تمثّل مخزن الطاقة لنبتة البطاطا؛ والبلوط يمثّل مخزن الطاقة لشجرة البلوط. بعد ذلك تأتي كائنات أخرى لتستفيد من مخازن الطاقة هذه لتخزين طاقتها هي، فالسناجب مثلا تجمع البلوط في الشتاء والبشر يجمعون البطاطا، بل عندنا كبشر مستوى آخر للتوزيع وهو المال الذي حين نجنيه من العقود المستقبلية ونودعه في حسابات التوفير نتغلب به على التذبذات في توفر المنتجات الطبيعيّة. من هنا يتضّح أن الكائنات الحيّة في الحقيقة لا يمسّها (على المستوى الفسيولوجي) التذبذب المُشاهد في العالم الخارجي.

للكائنات الحيّة أساليب تتجاوب من خلالها مع معدّل التغيّر في العالم الخارجي، وليس مع التغير الفعلي في مستوى الموارد (كما كان يُعتقد). تُغيّر براغيث الماء طريقة تكاثرها (فهي أحيانًا جنسية التكاثر وأحياناً العكس) حسب أي تَغيّر طارئ وحاد في البيئة، كتغير في كميّة الأكسجين في الماء، أو تَغيّر في حرارته ومدى وفرة الغذاء فيه. أي أنها لا تغيّر طريقة تكاثرها حينما تزداد درجة الحرارة أو تنقص، بل عندما يكون معدّل التغير في درجة الحرارة سريعاً (أيا يكن اتجاهه: زيادةً أم نقصانًا). تستعشر البراغيث هذا التغير، ببساطة ودون تعقيد. جهاز الإبصار عندنا مستشعر حساس للتَغيّر. إذ يُمكّننا جهازنا العصبي المركزي، عبر معالجته المُعقّدة للصور التي تصله من العين، من رؤية الفرق في كثافة الإضاءة بين حواف الأشياء, وذلك عبر تضخيم الفروقات بين المسافات الصغيرة بينها. نملك بهذا حدة إبصار أفضل من أي ماسحٍ بصري موجود. القاعدة الثالثة إذاً بين الكائن وبيئته: تهم التقلبات في البيئة بالقدر الذي تتفاعل معه الكائنات، لا أكثر.

أخيراً: تُغيّر الكائنات الحيّة الشكل المادّي للمؤثر الذي يصلها من العالم الخارجي. لا يكتشف الكبد عندي تغيّر درجة الحرارة في المكان مباشرة، بل على شكل تغير في تركيز السكر وبعض الهرمونات في الدم. إن التغير الأول الذي بدأ كاختلاف في سرعة حركة جزيئات الهواء - أي تغير درجة الحرارة - يصبح داخل الجسم تغيرًا في تركيز بعض المواد الكيميائية. يرجع فضل هذا كله إلى جيناتنا، لما لها من تأثير قوي على تركيبنا وطريقة عملنا. عندما أرى أفعى، وأنا أؤدي عملي في الصحراء، وأسمع فحيحها، يُحوّل جهازي العصبي اهتزازات الهواء التي قرعت طبلة أذني وفوتونات الضوء التي وصلت لعيني إلى رسالة كيميائية تطلق هرمون الأدرينالين داخلي. أما بالنسبة للأفعى، فذات الاهتزازات والفوتونات ستطلق تفاعلاً مختلفاً تمامًا داخل جسدها، خصوصًا لو كانت من جنس مختلف عني. يرجع هذا الفرق بين الرسائل إلى الفرق بين جيناتنا كبشر وبين جينات الأفاعي. إن القاعدة الأخيرة للعلاقة بين الكائن والبيئة هي: أن الكائنات ذاتها تحدد الشكل الماديّ للبيئة التي تعنيها.

قد يعترض أحدهم، فيقول: صحيح أن هذا الواقع التفاعلي بين البيئة والكائن يبدو جيدًا للغاية، لكنه يهمل جوانب واضحةً لا تملك فيها الكائنات أي تأثير على العالم الخارجي. اكتشف البشر قانون الجاذبيّة، لكنهم، مع ذلك، لا زالوا عاجزين عن مواجهتها. إن هذا في الحقيقة، غير صحيح. إذ لا تشعر بكتيريا تعيش داخل سائل بالجاذبيّة لأن خصائصها (كحجمها الضئيل وقدرتها على الطفو) تحررها من هذه القوة الضعيفة أساسًا. تحدد الجينات هذه الخصائص للبكتيريا. الفرق الجيني -بالتالي- بيننا وبين البكتيريا هو الذي يحدد ما إن كانت قوة الجاذبيّة ذات علاقة بنا أو لا.

تشعر البكتيريا من ناحية أخرى، بقوة حركة طبيعيّة لا نشعر بها نحن، تسمى "الحركة البراونية Brownian Motion". يُعرضها حجمها بالغ الصغر للتأثر بحركة جزيئات السائل الذي تسكنه كالوابل من كل الجهات. أما نحن ،فلحجمنا الكبير، لا نشعر بهذه القوة، ولا نُقذف من جهةٍ لأخرى تحت ضغط القصفٍ المستمر لتلك الجزيئات. إن أي قوة في الطبيعة تعتمد على 3 عوامل لإحداث أي تأثير: الحجم والمسافة والوقت. هذه العوامل تتحكم بها الجينات داخل الكائن، فهي تقرّر حجمه، وسرعة تغييره لحالته، والمسافة التي تفصله عن الكائنات الأخرى. هذا يعني من زاوية أخرى مهمة للغاية: أن درجة تأثير قوى العالم الطبيعي وعلاقتها بأي كائن مخزنةُ في جيناته. علاوة على ذلك، فكما لا ينبغي لنا القول أن الكائن نتاج مباشر لجيناته بل نعترف بالتفاعل بين البيئة والجينات في تكوينه، فلابد في المقابل ألا نكرر الخطأ بقولنا أن الكائن يواجه بيئة مستقله قائمة بذاتها. تؤثر البيئة في الكائنات عبر طريقة وحيدة: التفاعل مع جيناتها. أي أن ارتباط العالمين الداخلي والخارجي ارتباطٌ وثيق لا ينفك.

ثمة تطبيقات مهمة للغاية لهذه العلاقة بين الطبيعة والكائن على مستوى الحركات الاجتماعيّة والسياسيّة المعاصرة. يوجد تصور رائج وواسع الانتشار أن العالم آخذٌ في التدهور، وسيغدو العيش فيه خطيرًا، وأن هذا التدهور الكارثي ليس بعيد الحدوث. ستزداد الحرارة، وستزداد حدّة غارات الأشعة ما فوق البنفسجية علينا. الرائحة نتنة. المواد السامة موجودة بكثرة لتضرنا وتهدد حياتنا. يُقال أن هذا كله نتيجة أفعال الإنسان. إن الرغبة في خلق عالم نعيش فيه سعداء وأصحاء بعمر معقول، رغبة وجيهة تماماً، لكن هذا لا يجب أن يتم تحت شعار "أنقذوا البيئة!". يفترض هذا الشعار وجود بيئة طبيعيّة، متوازنة متناغمة، وأننا -وحدنا- بطيشنا وطمعنا من نقوم بتخريبها.

لا شيء، مما نعرفه عن العالم الطبيعي، يرجح وجود أي نوع من التوازن والتناغم فيه. يعيش العالم الطبيعي، منذ بدء الأرض، في حالة تغير وتقلب مستمرة، بشكل قاسٍ نعجز عن تصوره أحيانًا. إن كثيرًا مما نتصوره عن البيئة كان نتاج الكائنات الحية التي عاشت فيها. الغلاف الجوي الذي نتنفسه ونطمع أن يستمر لنا لم يكن موجودًا قبل الكائنات الحية. يُشكّل الأوكسجين الآن 18% من الغلاف الجوي، لكن الحال لم تكن كذلك في السابق، فمعظم الأوكسجين -لطبيعته غير المستقرة- مرتبط بمواد كيميائية مختلفة وقتها. كان الغلاف الجوي يحوي تركيزًا عاليًا من ثاني أوكسيد الكربون على كل حال. فكّكت البكتيريا والطحالب، في وقت مبكر من تاريخ الأرض، غاز ثاني أوكسيد الكربون، ثم لاحقًا، أصبحت النباتات من يفعل هذا. ضخّت النباتات الأوكسجين نحو الغلاف الجوي، فهو لم يكن موجودًا على الإطلاق قبل هذا. إثر ذلك، تطوّرت الحيوانات لتجد نفسها في عالمٍ هيئته المخلوقات الأولى لها. لم تكن هناك أي بيئة ولا توازن، ولا انتظام. كندا ومنتصف أمريكا، قبل 60 ألف عامٍ فقط، كانتا تحت الثلج بالكامل. لقد انقرض 99.9% من كل الأنواع الحية التي عاشت فوق الأرض، والباقي سيواجه نفس المصير.

ينبغي، بالتالي، أن تتخلى أي حركة بيئيّة عن هذا الالتزام الأيديولوجي نحو تلك البيئة الثابتة التي يسودها التناغم والتوازن، فهذا لا أساس له من الصحة مطلقاً. ينبغي بدلاً عن هذا أن تطرح سؤالاً أكثر أهميّة: كيف يرغب الناس أن يعيشوا، وكيف تُنظم الأمور حتى يصلوا لرغبتهم هذه؟ إن مايميّز البشر عن غيرهم من الكائنات ليس نزعتهم التدميرية في الحقيقة، بل قدرتهم على التخطيط للأثر الذي سيحدثوه. لا يستطيع البشر إيقاف جريان هذا العالم، ولا إيقاف حدوث التغيّر فيه، لكنهم قد يكونون قادرين عند وجود تنظيم اجتماعي مناسب، على توجيه هذه التغيرات لصالحهم. ربما يمكنهم حتى تأجيل انقراضهم لبضع آلاف من السنين.

ثمة سؤال يقول: هل يمكن للبشر، وفق قدراتهم البيولوجيّة، أن يعيدوا تنظيم مستقبلهم وإعادة تشكيل بنيتهم الاجتماعيّة؟ إن هذا السؤال يعيدنا لإشكال فطرة الإنسان ومدى حتميتها. إذ لو كان علماء الأحياء الاجتماعيّة محقّين في كوننا مقيدين بجيناتنا فيما نحن عليه من نزعات أنانية، وعدوانية، وريادية، وفي كراهيتنا للغير وانتمائنا لعائلاتنا، وأن ذلك كله فطرتنا؛ فهذا يمنع أي فرصة لتحقيق تغيير اجتماعي جذري، فالمرء لا يمكنه، في النهاية، أن يغير فطرته وماجُبل عليه. أما لو كان كروبتوكين Kroptokin محقًا، في كون البشر مدفوعين بيولوجياً للتعاون، وأن هذه النزعة أزيحت تاريخيًا بفعل فاعل، فإن إمكانية التغيير هذه متحققة ومعقولة. لذلك، يبدو أننا بحاجة لمعرفة القيود البيولوجيّة الحقيقيّة علينا كأفراد، إذ لا يمكن في النهاية تجاوز قيودٍ تعد جزءًا من طبيعتنا ككائنات. حريٌ بنا، لمعرفة هذه القيود، أن نبدأ بتحديد تسلسل حمضنا النووي بالكامل، صحيح أن هذا غير كاف، لكنه خطوةٌ أولى على الأقل.

يقول البروفيسور ويلسون، في كتابه:

"لو اتُخِذَ قرار تصميم مجتمعاتٍ تتماشى مع متطلّبات البيئة المستقرة، سيكون ممكنًا تعديل بعض التصرفات تجريبيًا دون أي خسارة عاطفيّة أو إبداعية، لكن لن يمكننا تعديل تصرفات أخرى… إننا لا نعرف كمّ مقدار الارتباط الجيني بين الصفات المرغوبة وغيرها من الصفات التخريبية البالية. فالتعاون مع الجماعة قد يكون مقرونًا بالعدوانية تجاه الغرباء. والإبداع قد يكون مقرونًا بالرغبة في التملك والسيطرة، ولو حاولنا -عند صناعة مجتمع مخططٍ له، الأمر الذي يبدو حدوثه حتمًيا- إبعاد أفراد ذلك المجتمع عمدًا عن تلك الضغوطات والصراعات التي دفعت تطوّر الصفات التخريبية (كالعدوانية) لأقصى حدوده، فسنجد أن الصفات المرغوبة المقرونة معها ستختفي كذلك. لذا، وفق هذا المنطلق الجيني البحت، فإن أي محاولة للتحكم الاجتماعي بالبشر ستسلبهم إنسانيتهم."

يظهر أننا، بالتالي، بحاجة لمعرفة أي علاقات جينيّة بين مختلف جوانب سلوك الفرد. إذ لو لم نعرف،فقد يؤدي هذا بنا إلى تخريب العالم ونحن نحاول إصلاحه.

إن المطالبة بمعلومات بيولوجيّة وما تحمله من افتراض ضمني أن المجتمع بحاجة لنخب تكنوقراطية لقيادته وتوجيهه يخلط تمامًا خواص الأفراد وعيوبهم، بخواص المؤسسات التي يصنعها أولئك الأفراد وعيوبها. إن هذا أقصى تمظهر سياسي لفكرة أن صفات الجماعات تتحدد من صفات الأفراد الذين تجمعوا فيها.

إن ما نراه حولنا في المجتمع يعارض هذه الفكرة. فنحن حين نحاول وصف تنظيمٍ اجتماعيٍ أو ما ينتج عنه، سنرى أن التنظيم الاجتماعي لا يعكس القيود على أفراده، بل يبطلها ويتجاوزها. فمثلاً، لا يستطيع الفرد منا أن يطير، حتى لو رفرف بذراعيه وقدميه، فهذا قيد بيولوجي حقيقي حيث لا أحجامنا ولا أحجام أطرافنا تساعد. لا ولن نستطيع الطيران كذلك لو كنا في جماعة وحاولنا الرفرفة بأذرعتنا وأقدامنا سويًا. رغم ذلك طرت إلى تورنتو العام الماضي، وطيراني هذا نتيجة حدث اجتماعي. فالمطارات والطيارات هي منتجات اجتماعيّة في النهاية، فهي نتاج مؤسسات تعليميّة دربت الطيارين، ومكتشفات علميّة، ومؤسسة مالية، وصناعات البترول والمعادن، ونظام الملاحة الجوية الذي صنعته الحكومة. هذه المنتجات عملت سويًا لتجعل الفرد منا قادرًا على الطيران، أي أن التشكيل الاجتماعي هنا، كان قادرًا على تجاوز قيد بيولوجي موجود.

رغم أن الطيران هنا كان ثمرة تنظيمٍ اجتماعي، من المهم ملاحظة أن هذا لا يعني أن المجتمع يطير! الأفراد يمكنهم الطيران، أما المجتمع فلا، لكن الأفراد يطيرون كنتيجة للتنظيم الاجتماعي.

ثمة حدود لما يمكن للمرء تذكّره، أي ما يمكنه حفظه واستدعاؤه من عقله. يشبه هذا ما قاله شيرلوك هولمز مرّةً لصديقه د.واتسون أنه ليس حريصا أن يعرف ما إن كانت الشمس تدور حول الأرض أم العكس، وعزى ذلك إلى أن هذا الأمر لا يؤثر على شؤونه، وشبّه العقل بغرفة محدودة المساحة، حيث لا يمكن لأحد أن يضيف عليها شيئا جديدًا دون التخلص من آخر قديم. هذا صحيح بالضرورة. ثمة بكل تأكيد حد لما يمكن للإنسان تذكّره، إذا كنا نقصد بالتذكّر استخراج المعلومات من الذهن. فمثلاً، لا يوجد مؤرخ للصحّة قط قادر على تذكر جميع أرقام الوفيات والإحصاءات السكانية منذ القرن الفائت وحتى الآن، لكن المؤرخين، رغم ذلك، قادرون على تذكّر كل هذا لأنهم سيجدونها محفوظةً في الكتب والمكتبات، والكتب والمكتبات منتجات اجتماعيّة في النهاية. يُمكّننا هذا النشاط الاجتماعي -بالتالي- من تذكر أكثر مما يمكن لأي فردٍ تذكره لو كان وحده.

إذاً، فالقيود البيولوجيّة الموجودة على الأفراد حين نعزلهم وحدهم، لا تصبح قيودًا حين يكون هؤلاء الأفراد داخل سياق اجتماعي. ليست المسألة أن الكل أكبر من مجموع أجزاءه، بل أن صفات تلك الأجزاء لا يمكن فهمها دون سياق الكل. لا تملك الأجزاء صفاتً مستقلة بذاتها، بل تملك صفاتًا تفهم في السياق الموجودة فيه. لذا، فالنظريّة التي تبحث عن فطرة بشريّة كنتيجة لجينات الأفراد، أو عن قيودٍ بيولوجيّة على الأفراد موضوعةٌ إما في جيناتهم أو في بيئة خارجية جامدة، فشلت في فهم كل هذا.

تعكس التنظيمات الاجتماعيّة والسياسيّة في الواقع طبيعتنا ككائنات حية، إذ أننا، في النهاية، كائنات ماديّة ننمو تحت تأثير التفاعل بين جيناتنا والعالم الخارجي. إن القول أن تركيبنا البيولوجي لا علاقة له بالتنظيم الاجتماعي قولٌ ينافي الواقع بالتأكيد. السؤال الذي ينبغي طرحه هنا: أي جانب من تركيبنا البيولوجي ذو علاقة بتنظيمنا الاجتماعي؟ لو قُدّر للمرء أن يختار ميزة بيولوجيّة وحيدة كانت بالغة الأهمية للبشر، فسيختار الحجم. طولنا هذا، الذي يتراوح بين الخمس والست أقدام، إذ جعل حياة البشر الحالية ممكنةً بكل ما فيها. إن الأقزام الذين التقى بهم جوليفر Gulliver (في القصّة الشهيرة "رحلات جوليفر" - حيث تتحطم سفينته ليجد نفسه في جزيرة مأهولة بالأقزام)، لن يستطيعوا في الحقيقة بناء الحضارة التي وصفت في القصّة، فهم، بطول 15 سنتيمتر، لن يستطيعوا، مهما كانت بنيتهم وتكوينهم، صناعة الأدوات التقنية الأولية للحضارة. فهم لن يستطيعوا، مثلاً، صهر الحديد أو كسر المعادن، لأن الكائن ذو 15 سنتيمتر لن يملك طاقة حركية كافية لكسر الصخر حين يضرب معوله الصغير في الأرض. وسيكون من غير المحتمل أنهم فكروا في التعدين، أو حتى تمكنوا من الحديث، لأن أدمغتهم صغيرة جدًا على فعل هذا. يحتاج الأمر على ما يبدو جهازًا عصبيًا بحجم محددٍ حتى يوجد فيه العدد الكافي من الارتباطات العصبية، والبنية المُعقّدة المطلوبة للحديث. النمل قد يملك فعلًا قوة هائلة وذكاءً عظيمًا بالنظر لحجمه، لكن حجمه هذا يضمن أنهم قطعًا لن يكتبوا يومًا كتبًا حول البشر، فهم لا يملكون حجم الدماغ المطلوب.

الحقيقة الأهم التي تخصّ جيناتنا هي أنها تساعد في جعلنا بالحجم الذي نحن عليه، وأن نملك جهازًا عصبيًا كجهازنا بما فيه من روابط مهولة. لا يوجد، مع ذلك، عدد كافٍ من الجينات لتشكل البنية المفصلة لجهازنا العصبي، ولا لوعينا، وهو الذي يعد جزءًا من هذه البنية. نجد أن الوعي-رغم ذلك- هو الذي يصنع البيئة التي نعيشها، بتاريخها وبالاتجاه الذي يسير إليه مستقبلها. إذا هذا يوفر لنا فهماً صحيحًا للعلاقة بين جيناتنا والشكل الذي عليه حياتنا.

لحمضنا النووي أثر قويّ على تشريحنا ووظيفتنا، تحديدًا حينما يجعل الدماغ المعقد ممكنًا، الدماغ الذي يميزنا كبشر. عند هذا الحد، نجد أن الحمض النووي والجينات أوجدت فرصةً لفطرة بشريّة وطبيعة اجتماعيّة ممكنة، لكنها طبيعة لا نعرف شكلها ولا حدودها إلا فيما سمح لنا وعينا البشري بالإحاطة به. لسيمون دي بوفار قول مأثور عميق وذكي حول هذا، تقول فيه "جوهر هذا الكائن ألا جوهر له".

يتجاوز التاريخ كل تلك الحدود المزعومة حول تأثير الجينات أو البيئة التي تحيطنا. فكما فعل منزل النبلاء الذي دمر سلطته ليحد من النمو السياسي البريطاني، كذلك فعلت الجينات حين جعلت نمو الوعي فينا ممكنًا. فحين فعلت ذلك، سلّمت قواها ليحل محلها نوع جديد مختلف تمامًا. ذلك هو التفاعل الاجتماعي بمختلف قوانينه وآلياته، والذي لا يمكن فهمه والإحاطة به إلا عبر تلك التجربة الفريدة: عبر الفعل الاجتماعي.

ملاحظات الترجمة

  1. لامارك يرى على سبيل المثال أن سبب طول عنق الزرافة هو أن الزراف كان يحاول الوصول للثمار في الأشجار، وبسبب المحاولات المستمرة يزداد طول عنق الزرافة، ويورث هذا الطول المكتسب للجيل التالي، الذي يفعل ذات الشيء، فيورث طولاً إضافيًا مكتسبًا.
  2. الغلاف الزمهريري أو الستراتوسفير: طبقة الغلاف الجوي التي تحيط بنا.